TG Telegram Group Link
Channel: قراءات
Back to Bottom
بطولة السؤال
الترحال في رواية " جوّاب" للكاتب أحمد لاري
 
" ليس المهم كثرة الإجابات ياعلي ، بقدر ما يهم أن تبقى جذوة العدل مشتعلة في ذاتك . تلك الرغبة و الشغف في البحث عنه حتى آخر رمق لك في هذه الدنيا "
 
عند الحديث عن فاعلية الرحلة في عمل سردي ما ، علينا التمييز بين أدب الرحلات الذي يقدم تجربة معرفية ذاتية تتفاعل بين الذات و " تنوع المكان " ، و بين السرد الذي يتخذ من ملامح الرحلة حبكة خاصة ، يقدم من خلاله " تحولات " الشخصية و تناميها عبر انتقالها من مكان إلى آخر . و لعل رواية " جوّاب " – و هي العمل الأول للكاتب أحمد لاري – تبدو كتلك الروايات التي تقوم حبكتها على رحلة البطل ، غير أننا في محاولة التلقي الأعمق للعمل ندرك أننا في مواجهة مع بطل الرواية المطلق ..و هو السؤال .
و لعلّ عنوان الرواية مهّد لهذه الحقيقة ، و هو من العناوين الدالة التي تقبل القراءة بوجهين ، فمن جهة قد نقرأ العنون كما رسم على الغلاف بالواو المشددة ، و الذي يحيلنا لرحلة الشخصية و انتقالاتها ، و قد نقرأ العنوان دون الشدة فيكون " جواب " . و هذه عتبة ذكية للنص تُحيل لعدة مستويات من الفهم . أذكر أن الروائي الكويتي خالد النصر الله اشتغل في روايته  " الدرك الأعلى " على هذا النوع من العناوين الدالة فصارت عتبة النص بين الدرك المكاني و الإدراك المعرفي .
و رحلة شخصية النص أيضا كانت بعدة وجوه ، فهي رحلة زمانية ينتقل فيها " علي " من حقبة لأخرى متخذا أسماء عدة بين علي في الحاضر ، و آريا في زمن حمورابي ، و إليكسوس في زمن أفلاطون ، و أسماء أخرى في حقب أخرى . و هي رحلة أيضا مكانية تنتقل فيها الشخصية متفاعلة مع تغيرات المكان في زمن واحد ، كما أنها و كما يبدو رحلة في الذات الخالصة و هي تواجه الأسئلة ملاحقة للإجابة ، و بحثا عن أفق يكفل قيمة العدالة .

-تفاعل العناصر :
تبحث الرواية عبر فصولها عن معنى العدل و حقيقة تطبيقه ، و تتخذ من التاريخ رافدا متدفقا لتطوير الحدث ، كما تتشعب من الفكرة الأساسية قضايا فرعية – معاصرة - كثيرة تشرح هم الكاتب و قلقه الذاتي كون أن الرواية الأولى غالبا ما تكون شديدة التماس مع كاتبها . فقد نوقشت قضية البدون التي تجسدت في شخصيتي " عبدالله و وليد الذي تبدل اسمه –في بُعد آخر – إلى آدم ، وفي ذلك ترادف ضمني بين الولادة " وليد"  و تجديد الهوية " آدم "  ، كما أشير إلى الفرق بين العدل و المساواة عبر سرد ملامح من حياة طبقة العمال في الزمن الحاضر و الماضي ، و مآلات العقوبات المتعسفة بحق الطبقات الكادحة و المسحوقة . غير أنه من الجلي أن روافد أخرى ضخت في عروق العمل ، كالأنثربلوجيا و الفلسفة ، فصارت تلك العناصر معا تتفاعل لتشكل جسد و روح الرواية .

-اللغة و السرد :
نحن في هذا العمل في تلاق مستمر مع معلومات متنامية و مكثفة ، و مع أفكار تفتح صناديق أفكار أخرى ، لذا بدت لغة النص الواضحة و الجادة هي الأنسب لتمرير روحه و أفكاره . كما أن شكل النص الذي صُب أغلبه في قالب السرد المشهدي و عبر الحوارات ما بين الشخوص ساهم في " تسييل " فكرته الأساسية و إتاحتها بقدر وافر من اللطف .
و على أن النص متنوع الزمان و المكان إلا أن الكاتب حافظ على اللغة الواضحة التي لم تتأثر بالحقبة التاريخية المستمرة التغيير ، ولم تتأثر بتغير المكان .

-الشخصيات :
تعتبر الشخصية الروائية عاملا حاسما في النص ، و العنصر الأكثر تفاعلا مع الحدث . و في " جواب " شخصيات عديدة، و متنوعة ، و من حقب زمنية مختلفة .
و لعل شخصية " علي" ، المرتحل و المُغامر والقلق بمصير الإنسان هي الشخصية الأبرز في النص تقابلها شخصية " أبو يوسف " في توليفة ( المعلم و الباحث عن الجواب ) ، غير أن هاتين الشخصيتين و غيرهما من الشخصيات التي ظهرت في نسيج الرواية ، لم تكن هي الناهضة بالحدث ، بل كانت متأثرة بالرحلة ، بل بسؤال الرحلة على وجه دقيق، لذا كان هذا السؤال هو محرك الرواية الأساسي الذي من خلاله تمت التفاعلات ، و في سبيله تعدد الترحال و استنطقت الأجوبة و تمت محاورتها و مناقشتها للوصول للحقيقة .

 
أعتقد أن الدكتورة نجمة أدريس تخوض مغامرة كتابية مختلفة في عملها الأخير " سيرة الغائب " ، إذ وجدت سردا لا يُشبهها ، تخلت فيه عن صوتها و منحت كل التمكين لصوت السارد .
من هو السارد هنا ؟
الكاتب الذي يلاحق سيرة " عبد المحسن الصوال " ، و يضمنها عبر منجز روائي تهيمن فيه المشهدية و الحوارات المُحركة لدينمو النص ، المنسابة بسيولة و بساطة اللحظة ، الخارجة من انفعالية الشخوص، في الكويت العتيقة ، و البيوت البسيطة ، و مابين سماء تظل الحوانيت و الكتاتيب و الحواري ، و " جال " البحر الذي يحتضن المدينة بذراع واحدة .
و إلى أن يعبر البحر " بطلنا " الذي أظهر النبوغ من الطفولة ، قاصدا عوالم السفر و مانحا محدودية المكان سِعات عدة إلى إندونسيا .
لقد كانت هذه المُغامرة ركضا في السيرة حقا ، سيرة خاصة بوطن كامل ، و هاجس غائب ، و معتقدات طازجة تتصاعد من قلق الأمهات و الزوجات المغلوبات على أمرهن أو اللاتي أعددن المِهاد لأطفال لا يأتون . و من عزم المُعلمين و المتعلمين الذي يثابرون على تخليق آفاق جديدة .
بالطبع أفكر، أن من قرأ للدكتورة " حدائقهن المعلقة " قد يفهم أنها تجربة مختلفة تماما ، تختلف بالقالب و الفكرة و تحتاج لقارئ غير ملول ، و لنقل بكل شفافية : أن السارد نجح في تحويل السيرة إلى سيناريو يرتضيه هو رغم أنه قدمها بقالب روائي .نعم مرة أخرى هذا العمل لا يشبه الدكتورة نجمة إدريس ، لكن أليست الكتابة تحرر و انعتاق ؟ أليست مغامرة بحد ذاتها ؟
أليست رحلة كلما مشينا في دروبها تعرفنا على المزيد ؟
ثقب في القلب !" ماذا يعني ثقب في القلب ؟
هكذا ظلت عشتار تردد مع نفسها ، وصلت الأم إلى المشفى ، و لم تجد ابتسامة عشتار .. سألتها ماذا يعني ثقب في القلب يا أمي ؟
من قصة قلب السمكة لـ قاسم سعودي


لم تعد نصوص أدب الطفل تقتصر على معالجة السلوك المزعج من خلال الحكاية ، و لا على طرح الأمثلة و محاورة التراث ، إنما بدأت - منذ اشتغالات ملحوظة - على الغوص في أعماق التكوين الخاص للطفل ، ذلك التكوين الصعب الاختراق على رهافته .

و من الملاحظ أن توجها جميلا و هاما لمعالجة الحالات الخاصة بدأ يُكرّس من خلال بعض النصوص ، فلم تعد قصة الطفل تقدم الوضع المثالي لابن الأسرة السعيد الذي يواجه مأزقا ما و تحاول القصة معالجته بتضافر جهود المربين الواعين في النص ، إنما صارت تقدم اليوم وضعا حيا مأزوما و تومض في ذهنه فكرة التشافي الذاتي .

إذن بات هدف قصة الطفل يتعدى كونه ( مشكلة - ثم حل ) إلى ( حقيقة - مواجهة و اعتراف - ثم تعافي ).

أخذت من منشورات مصابيح قصتين تحتفيان بالقلوب ، قلوب الأطفال المثقوبة كما في نص قلب السمكة ، و الذي تكتشف فيه الطفلة الطيبة عشتار سر النظرات المتعاطفة من قِبل المحيطين بها ، فتفهم خصوصية قلبها الذي لم يمنعه الثقب فيه عن ضخ محبته على عامل النظافة و لا على موظفة المكتبة ، و لا حال بينه و بين المحبة الكبرى ، المحبة لله .

لقد تمت معالجة " الحالة المأزومة " بأجمل وسائل القص في أدب الطفل حيث ورّد الناص عناصر الخيال ، و حرص على توطين النص بمتعة الحكاية اللغز ، ليبقى الطفل و الناضج يتتبعان سبيل التشافي على حد سواء و على ذات المستوى من تلقي المتعة و العِبرة .

و في نص قلب رباب لـ شيماء القلاف نُواجه حزن الفقد ، فالطفلة رباب تمضي في حياتها بقلب يتناقص كلما تعرّض للوجع و هذه معالجة لافتة جدا ، فحين تفقد أمها - و هي معضلة النص الكبرى - يبدأ قلبها بفقد أجزائه ، جزءً تلو آخر ، بكلمة مؤلمة ، و بسخرية إحداهن من طبيعة شعرها ، و حين تختلف مع أعز صديقاتها ، و حين يصغر عن قياسها المتنامي ثوبها المحبب . لكنها - و بمسار لطيف جدا و ذكي - تبدأ بالالتفات لطريق التعافي فيقع دور السعي عليها لترميم ذلك القلب و إعادة أجزائه و إعمارها بالرضى و المحبة .
الإنسان مرآة العالم
الانزلاق في الذات المضطربة في رواية الإنسان مخلوق وحيد لـ عبد الله البصيص
 
مرة أخرى يأخذنا الكاتب عبد الله البصيص لعالم الشخصيات الغامضة التي تحرض المتلقي على تتبع سماتها في سبيل اكتشاف الحقيقة المتوارية خلف نسيج " واع " من السرد المُخاتل. إن الرحلة القرائية التي تَهبُها هذه الرواية لقارئها تحتم عليه ألا يتعاطى معها بمحدودية التجربة ، إنما على استدعاء نصوص الكاتب السابقة لمطالعتها كمشروع يشتغل عليه ، و كرسالة كبرى تبني فيها الأعمال ( أعمال الناص ) عتبة تلو عتبة للصعود لمستوى أعلى في فهم مأزق إنسان اليوم و الإنصات إليه .
الإنسان مخلوق وحيد ، رواية الكاتب عبد الله البصيص الصادرة حديثا عبر دار وسم تشكل مع أعماله الأخرى – رغم جِدة الطرح و فرادته – عالما منسجما قابلا للتمدد و مانحا فكرة التأمل و السؤال ، فليس من العبث أن نجد في أعمال الكاتب السابقة ذلك التقديم المتشابه لشخوص النص و الذي يعتمد على الغموض ، و يقدمها بالألقاب كـ : المنشار في ذكريات ضالة ، و أمير الظلام في " الإنسان مخلوق وحيد " ، فهذا التكريس لهذه التقنية يسحب القارئ لمواجهة سؤال هام جدا مفاده : كيف نميز بين الوهم و الحقيقة ؟ و الصدق و الزيف ؟ و كأن الناص في هذه التقنية ينبه المتلقي إلى ضرورة تفعيل الحاسة و الحدس أيضا ..إن كان يطلب الحقيقة .
لكن ما الحقيقة ؟
الحقيقة الواضحة هنا ، أننا نواجه في هذه العمل المتدفق حقائقنا الغائبة خلف جلدنا السميك ، و ممارساتنا اليومية ، و استعاراتنا الذاتية ، و على قدر ما بدت شخصيات النص – كلها – غارقة في اضطرابها : كنرجس المفتعلة ، و المدير متعب الباطش ، و حسن صواب الذي نحتار في تصنيفه فنشعر أنه " ذهاني " ثم تُربكنا عباراته الرصينة ، و لطيف اللطيف الذي ربما يحيلنا إلى شخص مصاب بضعف شديد بالشخصية لدرجة قبول الإهانة ، و مع التركيز على شخصية النص الفاعلة : أمير الظلام – وحيد هادي ؛ و على قدر هذا التمعن في اضطراب الشخصيات و الاستيثاق من عُتهها ، نظل مجبرين على تقبل أن هذه الشخصيات تشكل إنساننا الحالي ، المتآكل اكتئابا ، و القلِق من صورته و مكانته ، و المستميت في تبرير ذاته ، المنصرف تماما إلى تلميع القشور دون الالتفات إلى العطب الداخلي . فأمير الظلام .. شخص الواقع الذي يلعب الفورتنايت و يضيف خسارته بها إلى خساراته في الحياة ، و يقضم شطائر الوجبات السريعة ثم يبحث عن أسرع الطرق للتخسيس ، و يتكئ على الغيبيات و وهم المعجزة لتبرير وجوده الباهت باحثا عن انتصار وهمي ، و السؤال هو : من منا لم يهرع خلف انتصارات يومية صغيرة تمنع عنا هجمة اكتئابنا ؟
ما أعتقده هو أن شخصيات النص مثلت باضطراباتها المتنوعة شكل واقعنا ، أو لنقل أنها تنبهنا لما نصير إليه دون أن نشعر .
الحيّز الروائي و حِيَل السرد :
تتحرك شخصيات العمل في مسارات تصنع حيزا روائيا يفوق التجريب في المكان الحكائي ، أو ما يمكن أن نسميه بفضاء الرواية ، ذلك أن الناص اشتغل على المكان بنحو متفرد جدا ، بحيث صارت الأحداث الدافعة لعجلة العمل تدور في مساحات تتعدى الجغرافية ، حتى يتوضح ذلك الحيز علينا أن نفهم التالي :
1/ تدور الأحداث ما بين مكان العمل – المنزل – المساحات المزروعة – المطاعم – السجن .
2/ تتحرك الأحداث بنحو متسارع يغذي التدفق الحكائي من خلال " مخلية " الشخصية الرئيسية " أمير الظلام " ، و ما ترهصه حواراته الجوانية و أفكاره و تصوراته الخاصة .
3/ تعبر الأحداث حواجز الواقع للانزياح الافتراضي عبر دورانها في فضاءات افتراضية مثل : منصة تويتر ، مقاطع يوتيوب ، ألعاب إلكترونية كـ  " الفورتنايت " بنحو يؤثث الحيّز و يحرك عجلة العمل دون أي إثقال في النص ، فلا يبدو ذلك ضربا من الإضافة أو تعزيزا لعناصر الإمتاع فقط بل هو خط أصيل من مسارات الرواية ، صانع للحدث و تحولاته .
4/ تتحرك الشخصية الرئيسية أيضا في الهامش ، و الذي قد يظهر في المستوى الأول للتلقي كنوع من التخييل الذاتي ، فأمير الظلام يقصد الكاتب " عبد الله " ، زميله في العمل الذي يغلق بابه دوما على مشاريع قرائية و روائية ، غير أننا في المستوى الثاني من التلقي نفهم أن ذلك الهامش لم يتم تضمينه كتوطئة ، إنما كنص مقابل يفتح تأويلات أخرى لفهم النص . في الهامش يتدفق السرد بتيار الوعي ، و بلسان أمير الظلام نفسه ، إذ يطلب من الكاتب أن يكتب حكايته متفضلا عليه بمنحه فكرة غير مسبوقة ستحقق له المجد الأدبي ، و يظهر الكاتب و هو يقرأ " دون كيشوت " ، و في هذا إشارة بليغة جدا لتلك المقابلة بين النص و بين دون كيشوت .
و ما بين الهامش و المتن تراوغ المتلقي تلك الحيل السردية التي يبتكرها الناص ، فتظهر المفارقة في أن الهامش المكتوب بتيار الوعي يتوازى مع المتن المكتوب بتقنية الرواي العليم – الغير موثوق به – أو المتعاطف . فلا المتن غربنا عن الشخصية و لا الهامش زاد اقترابنا ، لقد كانت الشخصية مُجسمة بأبعادها كلها بالنحو الذي تتطلبه المعرفة .
القصد أن تلك التوليفة بين المتن و الهامش كرست الوعي لفهم النص و معضلاته ، و حقيقة الشخوص و تحولاتهم . هذا التوازي يستمر بصنع مكاشفة إثر أخرى و بتوجيه النص نحو غايته و تكامله .
 
الشخصيات و التحولات :
تتمحور الرواية حول شخصية " وحيد هادي " الذي انتخب لقب أمير الظلام لنفسه ، و الذي تظهر حواراته الجوانية و البرانية و مواقفه الظاهرية  تذبذبه بين حدين شديدي التطرف :
-الحقارة
-جنون العظمة
هذه المراوحة بين النقيضين شكلت شخصيته الأقرب إلى العته ، و التي تخوض مواقف شبيهة بدون كيشوت ، مصطحبا رفيقه  " المحير " حسن صواب لمحاربة طواحين الهواء المتمثلة في أشجار الكونكاربس ، و بقدر ما يمكن أن تشفع له الحقائق المذكورة عن تلك الأشجار و الجدل القائم حولها – وهذا استثمار سردي ذكي بالمناسبة – بمثل ذلك القدر يفهم المتلفي من خلال السياق الحكائي و عبر التقادم في قراءة العمل أن حرب أمير الظلام مع أشجار الكونكاربس حربا غير مبدئية إنما قائمة على انفعلات الذات و على السعي خلف معرفة المكانة . لقد ظهرت علائم هذا الاضطراب في أكثر من موضع من الرواية ، أذكر على سبيل المثال عبارة وردت في صفحة 12 حيث يقول أمير الظلام:
" هذا يتكرر دائما في التاريخ و بعد أن يعرفوا الحقيقة سيقفون ورائي "
ففي استخدام مفردة ورائي و ليس معي نبش عميق في أعماق الشخصية و تزييفها الذاتي لحقيقتها ، فأمير الظلام المنشغل بمصلحة العالم و الذي أقسم أنه لن يترك المؤامرة تمس شعرة من رأس الإنسانية يبرر لنفسه الكذب أمام زميلته نرجس لتعزيز المكانة ،و يبرر لنفسه العنف البدني عبر الاعتداءات على حراس الأمن و الشرطة ، و يُمنطق بمسوغات عديدة تقديم الضحايا من أجل بروز مكانته كأمير الظلام مما يؤكد أنه يعنى فقط بنفسه و إن تعامى عن ذلك أو كذب بالحقيقة و صدق الزيف ، و أنه انشغاله بمحاربة المؤامرة ما هو إلا هوس بذاته غير أن ذلك الهوس متخف خلف الجهل المركب بالواقع و بالذات ..ربما .
في مقابل شخصية أمير الظلام يقدم النص شخصية حسن صواب ، بأبعادها الكاملة ، الهيئة و المشية و اللغة ، و رغم أن النص لم يغص في حواراتها الجوانية إلا أن الشخصية عبرت عن نفسها بصورة متكاملة كبطل ثانوي شديد التأثير في مسار الأحداث .
لقد قدم النص شخصيات أخرى ، هامشية لكنها جميعها كانت شديدة التأثير ، حتى أم أمير الظلام التي تبقى في صالة المنزل أمام المسلسل التلفازي بينما يصارع ولدها طواحينه و أفكاره مما يحيل القارئ لفهم طبيعة التنشئة التي نشأها أمير الظلام و ما ترسب في طفولته المبكرة من عقد أفضت به لمآله الأخير .
الرواية مرآة الواقع / الإنسان مرآة العالم :
تتنامى دهشة العمل في التماس ما بين المسرود و الواقع ، و عبر التناغم في بنية النص من حيث عناوين الفصول التي تشكل سلسلة من عتبات الفهم ، و في الحيل السردية المتراوحة بين المتن و الهامش ، و في المسار المفاجئ للنهاية و ما بعد النهاية ، و في تلك الجهة التي يأخذنا النص إليها لفهم إنسان اليوم و الانزلاق إلى أعمق نقاطه المضطربة . في المحصلة .. فتح عبد الله البصيص عبر حكاية أمير الظلام أعيينا لنبصر صورنا الظاهرة و المتوارية في مرايا الحقيقة .
 
 
" أيها الـ  
عبّر عما بك و ابعث رسالة 
و صوتك سيصل لا محالة ! 
 
يعد التوجيه من أهم أهداف أدب الطفل ، ذلك التوجيه التي يعتمد على تضمين النصوص بالرسائل المتناغمة مع عالم الطفل ، محاكية اهتماماته ، مخاوفه ، وسائل استمتاعه ، و مناقشة أفكاره .  
و في نص رسالة جرو صغير للكاتب الكويتي " السيد نون" نجد ذلك التضمين بأجمل و أنجح التقنيات ، عبر حكاية الثعلب الذي فقد أسرته بسبب الصيد الجائر و أنانية الصياد ، فيقرر بعد أن يعطي الحزن مساحته المستحقة أن يختار طريق التغيير ، فيترك الغابة ساعيا إلى المدينة ، و يقابل أشباهه ممن تعرضوا لذات الجور ، طالبا منهم إرسال رسالة للعالم الذي انغمس بذاتيته ، فأدار عنقه و أوصل صوته . 
يقول السيد نون في العنوان العريض للصحيفة التي استمعت لصوت الثعالب و الطواويس و التماسيح : 
" يا إنسان ..ميّز بين الجمال و الثراء  
فالجمال يكمن في لحظة احتواء "  

لقد قدم هذا النص العديد من الرسائل الهامة للطفل ، فرغم أنه يتحدث عن الصيد الجائر و عن استغلال الحيوانات لصناعة الفراء الباهظ الثمن و جلود الحقائب و الأحذية بصورة صريحة مما يحيلنا إلى اعتقاد أن خطاب النص بيئي بدرجة أولى و توعوي بدرجة ثانية ، إلا أني وجدت في النص رسالة بنائية هامة للقارئ الناشئ مفادها أن التغيير مسؤولية ذاتية ، و أن على صاحب المحنة أن يسعى بنفسه لإيصال فكرته و صوته للعالم  . 

كما يضمّن النص فكرة مقاومة الاستسلام للحزن ، و عدم الركون للخسارة ، و أن السعي للسعادة حق مشروع يبدأ من نبذ عجز المغلوبين على أمرهم . 

كل تلك الرسائل و أكثر ، في نص يتحرك بلغة شعرية ، حيث السجع الممتزج بالشعر ، و الحكاية متداخلة مع فن المُقامة ، مما يحرض القارئ الناشئ و الناضج على معاودة عيش القصة مرة بعد مرة ، مستمتعا بالفكرة ، و الحدث و اللغة و الصورة التي برع في رسمها الفنان علي الزيني . 
علينا أن نقرأ لأجيالنا و لنا هذه النص . 
قلعة في الهواء

بنحو آسر ، تطير بنا أحداث الرواية عبر بساطها السحري في بلاد إنغري ، بين حوانيت البُسط الشعبية ، و الحواري البسيطة إلى القصور الباذخة ذات الحدائق الليلة الساحرة ، و ما بين حكايات الجان و العواقب الحميدة و نتائج الأعمال نكتشف أن أجمل فكرة كرّستها الرواية هي : قوة الأحلام ، و أن الآمال التي لا تقيّد بحبال اليأس قادرة على تبديل الواقع إلى أجمل ، إن تبدّلت ذات الإنسان ، و تسلّح عزمه ، و صار حُلمه قبسا يُنير عتمته و يدفعه للمضي .
و هذا ما جرى على شخصية النص ، في الجزء المكمل لرواية قلعة هاول المتحركة ..
فـ عبدالله الشاب البائس ، الذي يعيش في خيمة هي مأواه و هي متجره أيضا ، يبيع البُسط في مدخل السوق القريب من الحيّ الغربي الذي يملكه الأغنياء . عبد الله الذي ورث شخصيته عن أمه الحالمة استطاع بقوة الحُلم و الأمل أن يهيء لذاته تلك العاقبة البهيجة .
.
.
استمتعت جدا بدهشة الرواية ، تأثيث السطور بالحركة و اللون والعطر ، ببرودة البلاط و أصوات النوافير و صلصلة قيود السجن ، و هيبة الجان و روعة النهايات الطيبة .
.
.
عندما قرأت الصفحة الأخيرة في الكتاب ، ألحّ عليّ إحساس بالامتنان للمترجمة العزيزة بثينة الإبراهيم ، أخذت أفكر .. أكنا سنحظى بمثل هذه الدهشة لولا جهود الترجمة اللائقة ؟ إننا حين نشكر المترجم نعترف له :
- بحُسن انتقائه للنصوص التي أرفدها للقارئ العربي .
- و بجمال اللغة التي طوّعت لنا النص لنقدر الاقتراب منه و نُقدّره
رواية كالوكين
لـ كارين بوي
ترجمة مهدي سليمان


كعادة روايات الدستوبيا ، ثمة مجتمع شمولي يُسيّر حيوات أفراده ، تدس السلطة أنفها في أعمق تفاصيلهم ، حتى يصير الخاطر المُختلف إدانة قد تصل عقوبتها للإعدام .

بطل هذه الدستوبيا كائن قلق ، كتبته الناصة شخصية مليئة بالتحولات . كائن يظن أنه يعرف ما يريد ، و يرتّب مهامه وفق هذا الظن ثم و من خلال اعترافات الغير يبدأ باكتشاف نفسه .
من المفارقات الهامة بالرواية أنها تكشف أهمية الحوار و إن لم تصرّح بذلك ، فالبطل يخترع دواء يُحقن به المرء فيبوح بكل خاطر يفكر به و بآرائه إزاء السلطة ، غير أن لحظة الكشف الحقيقية تحصل حينما يتبادل البطل حوارا صادقا مع زوجته .. أليس هذا من المفارقات اللافتة ؟
إن حوارا غير متكلف ، مكّن الشخصية من معرفة ذاتها و نبذ خواطرها المريبة و أطلعها على عمق حقيقتها لتعرف ما تريد و ما تود أن تفعله .
و في المحصلة ، فإن حورات الشخصية الرئيسة الجوانية هي التي تحرك عجلة السرد ، و الحوار البراني كذلك ، لكن عبقرية العمل تكمن في تلك الحوارات الجوانية التي تكشف النفس الإنسانية مع كل فقرة .
الرواية ملآى بالمفارقات ، في مجتمع تتخلق فيه مقامات أفراده بحسب قدرتها على التجسس ، فمدبرة المنزل هي شخص يُخشى من سلطته ، و حارس العمارة التي يرفع تقارير للسلطة هو شخص يتوجب تبرير أي تصرف خارج مسطرة اليوم الإلزامية إليه .
عمل مؤسف بقدر جماله .. ساهمت الترجمة المتقنة بإيصاله كما يجب.
داوود الفنان : نظرة في أدب الآخر و المختلف .
لـ باسمة الوزان

لطالما أدهشتني تجربة أدب الطفل ، و مدى تأثيرها بعيد المدى على شخصية الناشئ الفرد و امتدادها على صنع مجتمع الغد ، و لطالما استوقفتني الأستاذة باسمة الوزان التي أثرت بعطائها مكتبة الطفل عبر نتاج متنوع يخاطب شتى التجارب و يعزز المهارات و يضيء على الكثير من النواحي الإنسانية التي قد يغفل عنها المربون كما في نص : روز تقرأ أيضا مثلا .
هذه المرة تكتب الأستاذة باسمة عن الطفل المختلف - طفل متلازمة الداون بأعمق الطرق تأثيرا و بأهذبها سياقا مما يُغني تجربة الكتابة عن أدب المختلفين ، و تعزيز النظرة الإيجابية تجاههم ، و إن كنت أميل إلى الاعتقاد بأن الناصة " تغّير " النظرة من مفهوم الاختلاف إلى مفهوم أبعد من التقبل ، و هو مفهوم الاعتزاز بالذات و حبّ الهبة و تعميق الشكر .
بطلنا هنا طفل مختلف ، استطاع عبر مواهبه المميزة ( الذاتية و الروحية و العملية ) أن يكتمل و يصنع حياته، لا أن يركن إلى فكرة العجز . أسرته متفهمة و محبة و ذات وعي كبير مما ساند الطفل داوود و ألهمه الثبات ليواكب درب النجاح .
و كعادتها تكتب الناصة نتاج الطفل معتمدة على عدة تقنيات لعل أبرزها :
- متعة السياق : إذ تسرد المواقف التي تثير دهشة الطفل عبر مواده اليومية و معايشاته و تجاربه في الأسرة و المدرسة .
- اللغة السيالة التي تهب معانيها بألطف و أمتع الصياغة .
- النهاية المشرقة التي يحتاجها القارئ الناشئ لتساهم في إضاءة دربه .
داوود الفنان نص مميز ، و لا أبالغ لو أني تمنيت أن يُدرس في مناهج اللغة العربية حتى تتسع نظرة الأجيال لمن حولهم ، و من يشاطرهم الحياة .
مواجهة الوجع في أمنية أماني
قصة لـ السيد نون
.
.
يتعامل أدب الطفل مع المرحلة العمرية الأشد حساسية في رحلة الإنسان ، حيث يؤكد علماء النفس حتمية تأثير هذه المرحلة على كيانه و شخصيته و هويته و مآله بشكل عام . و من الهام أن تُناقش قصة الطفل مواجهاته المتعددة و المتشعبة بمعالجة متفهمة تخاطبه أولا ثم تمتد لتمس روحه و روح القارئ الناضج .
تجربة الكاتب الكويتي السيد نون ملفتة بهذا الصدد ، فمن خلال قراءة نتاجه المقدم للناشئة نميّز حرصه على تفعيل مواجهات تلك الفئة العمرية في نصوصه ، بتنوعها ، و تفاصيلها ؛ مرورا بالمناطق التي قلّ عبورها و المآزق التي لم تُناقش بعد .
.
.
التوجيه لقيمة كما طرح في حكاية جرو صغير ، و العثور على حلٍّ لمشكلة كما في منزل صغير جدا ، و النجاة من مشاعر عدم استحقاق ذاتية كما طرح في حلم شجاع ، ثم مواجهة ألم الفقد كما في مسجل نورة ; كل هذا التنوع ساهم في إثراء المكتبة العربية للطفل ، ليجد من خلالها ما يحاور ذاته و يمتعه و يضيء له دربا ما .
.
.
و في قصة أمنية أماني تشعب جميل لمُعضلة الفقد ، حيث أن النص لا يتحدث عن موت عزيز ما ، و مداواة آثار غيابه ، إنما يأخذ قارءه في رحلة تغوص في التناقض بين الحضور و الغياب .
فالنص يطرح قصة الطفلة أماني ، المُحبة لجدها ، و المتعلقة به إذ شغل الكثير من مساحة ذكرياتها المؤثرة في شخصيتها ، تلك الذكريات المُراوحة بين المرح و التجربة و دهشة الاكتشاف . و في انعطاف ما تظهر على الجد علامات مرض الزهايمر ، مما يعرض أماني لصدمة الحاجز السميك الذي صار يفصلها عن جدها المُحب ، فيستعرض النص عبر صور سردية مركزة -تُناسب مُستقبلات تلقي تلك الفئة - معاناة الطفلة و ألمها المتنقل بين الحضور المُقنع و مرارة الغياب .
.
.
لكن من طبيعة نصوص أدب الطفل أن تأخذ بمتلقيها لجهة الإشراق ، و أن تهيّئ كوة لتُسرّب الضوء مهما بلغت عتمة الألم ، و ذلك من شأنه إنشاء جيل يتعلم المواجهة و المقاومة و عدم الانهيار أمام التجارب ، و شكر هبة الموجود قبل الانشغال بالمفقود ، و أعتقد أن هذا ما قدمه السيد نون في هذا النص ، فقد كرّس فكرة الاستمتاع بالهبة ، و الاتكاء على الذكريات الجميلة و مهارة تخزينها ، و على ترسيخ فكرة هامة ، و هي أثر المشاعر الطيبة و إن كانت متوارية خلف حاجز ما .
ساطع : نوافذ مشرعة في أدب الناشئة
 
بمتابعة النتاج العربي الموجه للناشئة ، ثمة توجه ملحوظ ، ناشط و جميل ، بدأ يغذي المكتبة العربية و يحاول مواكبة نتاج المكتبة الأجنبية في هذا الصدد . و مع ما وصلت إليه النتائج المُرضية في أدب الطفل نلاحظ أن أدب الناشئة – لدينا – بدأ يخطو خطواته الواثقة التي صنعت فارقا في السنوات الأخيرة ، حيث بدأت دور النشر تعتني بهذه الفئة و تحاول تقديم ما يمس اهتماماتها و يناقش تحدياتها .
ثمة تجارب ملحوظة ، تحترم الناشئ ، و سنه القافز على الطفولة و المتطلع للنضج ، و تقدم له الرواية التي تهرب من سذاجة الطرح ، و قوالب الوعظ ، و تخوض مغامرة اجتذابه كقارئ يلاحق الحكاية و يستمر في تتبع امتداداتها ، و ربما نستطيع القول ، بنبرة حاسمة و حازمة أن رواية الفتيان لن تكون مؤثرة إن لم تؤثر أولا بالقارئ الناضج . و على هذا الأساس بدأت بتلقي رواية ساطع ، للكاتبة الكويتية إستبرق أحمد و الصادرة حديثا عبر منشورات تكوين .
و الحقيقة ، حين صافحت السطور الأولى للعمل ، تشكل لديّ سؤال مُحفز ، فضولي ربما ، يدور حول شكل النص و تقنيات كتابته و مدى قابلية وصوله لوعي المتلقي الناشئ ، فمن قرأ لإستبرق أحمد و فهم مسارها الأدبي يدرك أنها كاتبة لها خط مختلف ، و صوت سردي خاص ، أكاد أقول أنه لا يشبه سواه . فمن قرأ نصوصها القصصية يعرف أنها تكتب بطريقة معيارية إبداعية كأنها تنسج بالإبرة و الخيط ، و غالبا ما تحتاج نصوصها لمعاودة القراءة و نبش العبارة و المفردة ربما ، و مناقشة الأسئلة ، في رحلة قرائية لابد أن يسعى فيها المتلقي للذة الوصول و متعة الكشف ،  فكيف ستكتب إستبرق للناشئة يا ترى ؟
بالطبع ، قدمت إستبرق قبل ساطع لمكتبة الناشئة إصدار " الطائر الأبيض في البلاد الرمادية " ، غير أن العمل و إن صنفه البعض ضمن أدب الطفل إلا أنه بدا لي غير محدود بهذه الفئة ، نعم ..طوعت الناصة المكونات الساحرة ، المعتمدة في أدب الطفل لصنع تركيبتها الخاصة، كالطيور الناطقة و الأعمدة المؤنسنة و البحيرات الآسنة و القطط الجشعة ، لكنها ناقشت عبر تلك التركيبة العديد من قضايا الناضجين ، كالفساد و الاغتراب .
و الأمر مختلف تماما في " ساطع " .
هل نقول أن تجربة ساطع هي تحد تخوضه الكاتبة ؟ هل هو الارتقاء على القديم و صناعة الجديد الذي يعلن عن فرادته ؟ ربما .
 
النص و الحكاية  :
 
على غير عادة نصوص اليافعين ، التي تركز على حبكة ذات مسار واحد ، تقدَّم من خلالها الحكاية عبر تقنية المشكلة المركزة التي تدور في فلك واحد ، و امتداداتها و من ثم الحل ؛ تصنع الناصة في ساطع حبكات متداخلة تتضافر لتنسج وحدة الحكاية العضوية ، تلك الحبكات تتناغم مع اختلافها ، و تنسجم مع فرادة كل منها ، فتشبه قطع البازلت التي تتكامل لتكوين اللوحة النهائية ، فالنص يقدم حكاية عزيز " زيزو " ، فتى العاشرة المولود بعينين ذات لونين مختلفين ، و الذي يتنمر عليه الأقران في المدرسة فيميل إلى الوحدة و تجنب مواجهة وحوش مشاعره ، لكن ذلك لا يعني أن النص محصور بفكرة الاختلاف و التنمر ، إنما يأخذ متلقيه – عبر الحبكات – لمواطن أخرى ، فنجد النص يميل بنا إلى معضلات أخرى : كمرض الجد زيد ، و غياب ابن الخالة أكرم ، و الشوق للوالد الغائب . و مع إعطاء كل معضلة مساحتها الممكنة تتشعب بنا الناصة عبر الحبكات الخارجية لنغوص في الحبكة الداخلية التي تشبه حكاية في جوف حكاية فنتعرف على ساطع : الزجاجي المختلف القادم من عالم بعيد و الذي يقاوم شعور الغربة و يسعى للتكيف و كسب القبول .
هذا الاشتغال على المستويات عرفني على لعبة النص الممتعة و تحرره من قيد الفكرة الواحدة المركزة إلى المعالجة المتعددة ، التي تشبه الحياة تماما في تعدد وجوهها ، و مواجهاتنا اليومية المتداخلة .
 
 
اللغة ..لعبة الكاتبة الأصيلة :
 
نحاول في الكتابة لليافعين تقديم الفكرة بتقنيات لغوية تسهم في إيصالها طيعة ، فتصير اللغة ناقلا حساسا للدهشة و القيمة . الناصة اعتمدت في كتابتها على اللغة الواضحة ذات الأبعاد ، تلك التي يمكنها أن تقول ما تريده الحكاية ، و تصنع مع ذلك إحالات متوالفة ، فلا نعجب أن يسمى الجد مصباح ، و لا نعجب أن يلقب فتى العاشرة بـ فلاش .
و من جهة أخرى ، ترفع الناصة ذائقة المتلقي الناشئ عبر تشكيل لغوي يعتمد على العبارة السخية التي مع وضوحها المناسب لتدفق الحكاية تسهم في تفعيل ذكائه اللغوي و تنمية مهارة تشكيل اللغة .
تقول الناصة :
" رفع رأسه في شهيق الصباح الباكر "
" الأسف سيخفف الخطأ ، أما الصبر فهو ما سيهبك العطايا "
كما أن اللغة في النص كانت عدسة أخرى لوصف المكان ، بجغرافيته المتعددة ، من فيحاء الكويت و سواحلها إلى طيور النحام في الشويخ و الدوحة  ، و من الفيوم بحقوله و غيطانه الملغزة و أشجاره و غلاته الزراعية  و بحيراته التي تحمل خلف أسمائها قصصا و أساطيرا إلى برودة النرويج ، ثم تأخذنا اللغة المضيافة إلى العالم البعيد الذي أقبل منه الزجاجي ، بعد تأثيثه بطبيعة خاصة تتناسب مع شخوصه الزجاجية الشفافة .
رسائل النص بين التبطين و المعالجة الواضحة :
 
يُضمن النص عدة رسائل ذات أبعاد إنسانية ، يمررها إلى وعي الناشئ بتقنيتي : المعالجة المباشرة و تبطين القيمة .
في النص نجد التصريح بقيمة قبول الذات أولا ، ثم فهمها و مواجهة النواقص و التركيز على جوانب القوة ، فالنص يصرح باختلاف عدد من شخوصه :
أ-زيزو فتى العاشرة ذو العينين المختلفتين اللون .
ب-أروى الفتاة التي تتقبل قصور قامتها و تحب تفوقها الدراسي و قوة إرادتها .
ج-ساطع القادم من عالم مختلف ، الهش ، الذي يخاف أن يضيء فينكسر لكنه يقوى بمحبة المحيطين و قبولهم .
غير أن المعالجة لا تتوقف عند هذا الحد بل تمرر رسائلها عبر تقنية التبطين ، فتشبه القراءة هنا لعبة التقصي و إكمال رقع الأحجية ، فيستوقفنا أن شخصية النص " زيزو " ابن لكويتي من أم مصرية ، و في تلك رسالة جميلة جدا لنبذ التعصب و احترام الآخر ، فللشخصية هويتان ، وأسرتان ، و وطنان ، يفيض عليهما كليهما بالحب و الحنين و مشاعر الانتماء .
كما أن الناصة التلميح بهويات الشخوص عبر الأسماء ، و هذا تركيز منها على قبول الآخر ، فتختار لصديق ساطع اسم " مارو" و لأخر اسم " بيشوي " ،و هذا تضمين في غاية الذكاء .
في جانب غير بعيد ، نلمس هذه الرسائل في معالجة الجد و الجدة لتوطين " ساطع " من خلال تعليمه العادات الغذائية التي تناسب العالم الجديد ، و خياطة الثياب التي تمكنه من الانسجام بالمجتمع ، و إلحاقه بالمدرسة ، كل تلك الصور تمرر للناشئ رسالة هامة ، مفادها أن لكل مشكلة حلا ، ما ووجهت الاعتراف أولا و الشجاعة ثانيا ،  و عولجت بالسعي و القبول .
 
هذه الرواية ، إثراء فعلي لمكتبة اليافعين العربية ، بأحداثها الماتعة ، و مزجها بين المغامرة المدهشة و ما بين الأساطير و الأحاجي و ألغاز الخيال العلمي ، و لوحات الفنانة إيناس عمارة ذات الدلالة النافذة ..تفتح أبوابا لإمكانية وصول رواية اليافعين العربية إلى مستويات جميلة جدا .
 
 
 
 
قراءات pinned «ساطع : نوافذ مشرعة في أدب الناشئة   بمتابعة النتاج العربي الموجه للناشئة ، ثمة توجه ملحوظ ، ناشط و جميل ، بدأ يغذي المكتبة العربية و يحاول مواكبة نتاج المكتبة الأجنبية في هذا الصدد . و مع ما وصلت إليه النتائج المُرضية في أدب الطفل نلاحظ أن أدب الناشئة – لدينا…»
HTML Embed Code:
2025/07/07 16:47:13
Back to Top