Channel: قراءات
شرف المحاولة
لـ بثينة العيسى
المفترض أن يقدم هذا الكتاب شيئا يُشبه السيرة التوثيقية لحركة التصدي للرقابة في الكويت ، لكن هل يمكن أن تكتب الأستاذة بثينة العيسى كتابة مُتوقعة ؟ لا أظن .
بالنسبة لي ، يفتح لي الكتاب أكثر من نافذة ، و يزوّدني بأكثر من رافد . فمن مناقشة موضوعية لفكرة الرقابة و نقدها ، إلى رصد المساعي الفردية و الجمعية للمواجهة ، إلى الدخول في منطقة الرقيب و استعراض المعايير الرقابية المجحفة بحق النتاج الأدبي و الفكري ، وصولا آلية تفكير الجمهور .
لفتتني هذه العبارة في هامش فصل : كواليس الرقابة في الكويت ، تقول الناصة:
" ما ورد في هذا الفصل هو إعادة كتابة لمقالة نشرتها باسم مستعار هو " محمد العجمي" في جريدة الجريدة بعنوان : كواليس الرقابة في الكويت حماية مقدسات أم تكميم أفواه . و قد لجأت إلى الكتابة باسم مستعار لأني : ١- أصبحت شخصا مملا لكثرة طرح الموضوع إلو درجة أنني خفت ألا ينصت أحد / ... و كانت المفارقة أنهم أحبوا المقالة و تداولوها بسعادة ".
اللافت في هذه العبارة قدرتها على فتح منافذ عقلية الجمهور ، الذي غالبا يلتفت إلى القائل و يحاكم ما قيل وفق فكرته السابقة عنه ، دون أن يفهم جزيئيات الفكرة المطروحة و يناقشها بتجرد .
نوافذ عديدة يتفتحها هذا الكتاب ، أسئلة تعيد بناء الأفكار ، و نقاش الذات مع الذات ، كل ذلك إن عدونا لغة الناصة الساحرة ، و طريقة ترتيبها لجوانب الطرح .
لـ بثينة العيسى
المفترض أن يقدم هذا الكتاب شيئا يُشبه السيرة التوثيقية لحركة التصدي للرقابة في الكويت ، لكن هل يمكن أن تكتب الأستاذة بثينة العيسى كتابة مُتوقعة ؟ لا أظن .
بالنسبة لي ، يفتح لي الكتاب أكثر من نافذة ، و يزوّدني بأكثر من رافد . فمن مناقشة موضوعية لفكرة الرقابة و نقدها ، إلى رصد المساعي الفردية و الجمعية للمواجهة ، إلى الدخول في منطقة الرقيب و استعراض المعايير الرقابية المجحفة بحق النتاج الأدبي و الفكري ، وصولا آلية تفكير الجمهور .
لفتتني هذه العبارة في هامش فصل : كواليس الرقابة في الكويت ، تقول الناصة:
" ما ورد في هذا الفصل هو إعادة كتابة لمقالة نشرتها باسم مستعار هو " محمد العجمي" في جريدة الجريدة بعنوان : كواليس الرقابة في الكويت حماية مقدسات أم تكميم أفواه . و قد لجأت إلى الكتابة باسم مستعار لأني : ١- أصبحت شخصا مملا لكثرة طرح الموضوع إلو درجة أنني خفت ألا ينصت أحد / ... و كانت المفارقة أنهم أحبوا المقالة و تداولوها بسعادة ".
اللافت في هذه العبارة قدرتها على فتح منافذ عقلية الجمهور ، الذي غالبا يلتفت إلى القائل و يحاكم ما قيل وفق فكرته السابقة عنه ، دون أن يفهم جزيئيات الفكرة المطروحة و يناقشها بتجرد .
نوافذ عديدة يتفتحها هذا الكتاب ، أسئلة تعيد بناء الأفكار ، و نقاش الذات مع الذات ، كل ذلك إن عدونا لغة الناصة الساحرة ، و طريقة ترتيبها لجوانب الطرح .
مجموعة الكاتبة شيماء الوطني ؛ الصادرة حديثا عبر أفكار للثقافة و النشر ، مجموعة قصصية عامرة بالمفارقات .
فمن خلال خمسة عشر قصة تطغى عليها سمة الجنون تعرّي الناصة النفس الإنسانية ، و سطوتها .
كيف يمكن لفكرة تتوقد في الذهن أن تعكس شعورا ، و من ثم تورط صاحبها في مسارات الجنون و تغيير المصير ؟
.
.
في المجموعة ١٥ قصة ، كل منها تشبه رحلة في الذات و تجعلها عرضة للأسئلة ، بالطبع كان لبعض القصص تأثير مختلف جعلني أحتفي بنتاج الناصة التي قرأت لها إصداراتها السابقة و ألحظ حاليا - في حالة من حظوظ و ترف القراء التي لا يملكها الكاتب - تقدما لافتا .
.
.
في القصص إحالات تراثية جميلة ، عامرة بالغموض و الدهشة ، كما في نص مرايا الجنون ، و هي القصة التي كان لها تأثير بالغ في حالتي القرائية كون السرد تميز بعناصره ، الحكاية المدهشة المحفزة و الوصف الذي تميز بالعبارات ذات الأبعاد التي تُلمس و تُحس ، من وصف القصر إلى الحواجز إلى المرايا إلى الوجوه .
شعرت أن النص يعيد في ذاته حكايات عديدة مثل أميرة الثلج و الحزايات الخليجية أيضا .
و تقابل هذه القصة " ذلك الذي يدق في صدري " ، حيث في القصة الأولى نحن في حضرة سارد يصف لنا التضييق الذي تعانيه وحيدة والديها و مدى رضوخها أخيرا و تشربها بوحدتها بينما في النص المقابل نستمع صوت الابن الوحيد المُضيق عليه بدافع الحرص أيضا .
تقول الناصة :
" لم أحيا كطفل طبيعي ، كان الحرص و الانتباه و المحذورات التي يحرص عليها والداي تحد من ممارسة حياتي الطبيعية كأي طفل "
.
.
و بشكل مجمل تضمّن النصوص في مسارها رسائل اجتماعية هامة و إن لم تكن بنحو من التصريح مثل أثر الوالدين و تقنيات التنشئة كما في نص المشوهة و غيرها من النصوص ، كذلك لفتني كثيرا نص " أن تُرى " و الذي يثير بمتلقيه سؤالا :
-إلى أين يقودنا سعار التعبير عن الذات ؟ و الركض لقنص الأضواء و تفاعل الجمهور ، فالنص و إن كان يرسم ملامح شخصية مضطربة تسعى لأن تكون أبدا في دائرة الاهتمام إلا أنه يلامس شريحة كبرى من صناع المحتوى الذين يتغذون على " لايك الانستغرام " و ينطفئون في اعتيادية الحياة .
.
.
قدّمت الناص القصص بلغة واضحة حرصت على انسيابيتها لدى المتلقى ، نعم لمستُ الاشتغال على الوصف ذي الأبعاد المُجسمة فيما كانت العبارات واضحة لإتاحة معناها و كي يطغى صوت الحكاية .
فمن خلال خمسة عشر قصة تطغى عليها سمة الجنون تعرّي الناصة النفس الإنسانية ، و سطوتها .
كيف يمكن لفكرة تتوقد في الذهن أن تعكس شعورا ، و من ثم تورط صاحبها في مسارات الجنون و تغيير المصير ؟
.
.
في المجموعة ١٥ قصة ، كل منها تشبه رحلة في الذات و تجعلها عرضة للأسئلة ، بالطبع كان لبعض القصص تأثير مختلف جعلني أحتفي بنتاج الناصة التي قرأت لها إصداراتها السابقة و ألحظ حاليا - في حالة من حظوظ و ترف القراء التي لا يملكها الكاتب - تقدما لافتا .
.
.
في القصص إحالات تراثية جميلة ، عامرة بالغموض و الدهشة ، كما في نص مرايا الجنون ، و هي القصة التي كان لها تأثير بالغ في حالتي القرائية كون السرد تميز بعناصره ، الحكاية المدهشة المحفزة و الوصف الذي تميز بالعبارات ذات الأبعاد التي تُلمس و تُحس ، من وصف القصر إلى الحواجز إلى المرايا إلى الوجوه .
شعرت أن النص يعيد في ذاته حكايات عديدة مثل أميرة الثلج و الحزايات الخليجية أيضا .
و تقابل هذه القصة " ذلك الذي يدق في صدري " ، حيث في القصة الأولى نحن في حضرة سارد يصف لنا التضييق الذي تعانيه وحيدة والديها و مدى رضوخها أخيرا و تشربها بوحدتها بينما في النص المقابل نستمع صوت الابن الوحيد المُضيق عليه بدافع الحرص أيضا .
تقول الناصة :
" لم أحيا كطفل طبيعي ، كان الحرص و الانتباه و المحذورات التي يحرص عليها والداي تحد من ممارسة حياتي الطبيعية كأي طفل "
.
.
و بشكل مجمل تضمّن النصوص في مسارها رسائل اجتماعية هامة و إن لم تكن بنحو من التصريح مثل أثر الوالدين و تقنيات التنشئة كما في نص المشوهة و غيرها من النصوص ، كذلك لفتني كثيرا نص " أن تُرى " و الذي يثير بمتلقيه سؤالا :
-إلى أين يقودنا سعار التعبير عن الذات ؟ و الركض لقنص الأضواء و تفاعل الجمهور ، فالنص و إن كان يرسم ملامح شخصية مضطربة تسعى لأن تكون أبدا في دائرة الاهتمام إلا أنه يلامس شريحة كبرى من صناع المحتوى الذين يتغذون على " لايك الانستغرام " و ينطفئون في اعتيادية الحياة .
.
.
قدّمت الناص القصص بلغة واضحة حرصت على انسيابيتها لدى المتلقى ، نعم لمستُ الاشتغال على الوصف ذي الأبعاد المُجسمة فيما كانت العبارات واضحة لإتاحة معناها و كي يطغى صوت الحكاية .
أحاجي اليابسة والماء
ما تلقيه ذخيرة أيام الوعي و الخرف على كاتب أسفار مدينة الطين
" و ابتسم كاشفا عن صف أسنان سليم لولا سقوط أحد أنيابه ، سألته كيف تدخلني الحكايات في مشكلة ؟ و مع من ؟ "
" مع نفسك "
يُحسب لأي كاتب تفرده في مشاريعه الأدبية ، كما يُثمن " تركيزه " على قضايا معينة ، أو مِهاد حكائي خاص تتحرك فيه الأحداث ، و الكاتب الكويتي سعود السنعوسي في عمله الراوئي الجديد المعنون بـ أسفار مدينة الطين و الصادر بجزأيه الأول و الثاني عن دار " مولاف " ، يمازج بين التجربتين – التفرد و التركيز – عبر تقنية السرد حمال الأوجه . إذا أنه يقدم في هذا العمل جِدة على المستوى الفني في الوقت الذي يعود فيه – كطير المولاف – إلى مِهاد المكان الحكائي الزاخر بـ : المُحاكاة – التخييل – و التمثيل بالأسطورة . دون أن يُحصر فضاء الرواية في هذه الثلاثة مفاهيم .
تشبه الرواية غرفة منسقة بدمى ماتروشكا – دمية في قلب دمية – و حكاية في جوف حكاية ، أو ربما التعبير الأنسب هو : خرائط تقود إلى خرائط و دليل يعزز أثر دليل ، ثم أحداث " تتناظر" في مرايا السرد لتصل إلى مستوى يفوق الترميز إلى بُعد آخر قد يسمى " ترميز الترميز " ، ولا مبالغة في تأكيد استحالة إهمال أي تفصيل بل أي سطر حتى يتماهى التلقي مع روح العمل و يقترب من حِيله مستعملا طاقة وعيه القصوى ، و مع ذلك لا يمكن القول أن العمل بتجريده من الحيل يٌخفق في تحقيق هدف السرد الأول و هو الإمتاع ودهشة تتبع الحبكة ،إذ بالإمكان أن يُتلقى على مستوى الحكاية الواضحة ، تلك التي تدور في حقبة مٌهملة من تاريخ الكويت ، وتتعرض لتفاصيل معارك معروفة كمعركة الجهراء أو مجهولة كمعركة " حمض " ، و تجول في بيوت الطين بمكابدات بقائها و عوزها و صراعات شخوصها المتعددة و المنساقة إلى مآزق الهوية كما في حكاية سعدون و خليفة و عاموس بن شاؤول و مبروكة ، و شظف المعيشة كما في قصص الغاصة و أثقال ديونهم ،و متاعب انتظار عودة سفن الغوص على اللؤلؤ كما في حكايات انتظار النساء المتشحات بالسواد على السيف المشتاق أو مواجهات الغاصة و أهل " الخشب " لمزاجية البحر و غدر سكّانه ، و تتعرض أيضا إلى ثقافة المهاد الروائي بطبيعته المتوجسة من كل جديد أو دخيل كما في تعالقه مع أفراد البعثة الطبية التبشيرية الأجنبية و غيرها مما يُحرز الهدف الأبلغ للقص .
كون من سرد :
كعادة الناص يبتكر كونا روائيا يسعى لاكتماله الذاتي حتى يوشك أن يوقع متلقيه بظنة التجريد الأقصى من كل علائق الواقع ، كأن الرواية بعناصرها :
-المتجانسة : كما في محاكاة تاريخ المكان و حوادثه و جغرافيته .
-التخييلية : كما في ابتكار أحداث من الخيال تُبتنى على شخصيات و عناصر من الواقع حيث ولّد الناص من خلال شخصية إلينور كالفري و الشيخ سالم بن صباح و السيد القزويني و غيرهم تفاعلات سردية ترسم ملامح النص و تدير أحداثه .
-المتضادة : كما في الاشتغال على المواريث الأسطورية و تضمينها في جسد النص بحيث تشكل عجلات محركة للحبكة.
-المتناظرة : كما في تطوير العناصر إلى رمزيات تناظر رمزيات أخرى بحيث صارت ( مبروكة الأولى تناظر القطة إلينور ) و ( أم اللوه تناظر أم صنقور و سمكة العنفوز و ربما الشايب أيضا ) و ( بئر برقان النفطي يناظر برقان أبي العجائب صاحب المقام الخفي في الصحراء و أبي الملوك السبعة ) ..و بالتأكيد غيرها الكثير .
-التمثيلية : كما في تشكيل ملامح النص من خلال :
أ-عناوين الفصول التي تتفاعل مع المتن بعلاقة ناظمة لتحريك الحدث فلا يقتصر دورها على التمهيد له بل يمتد إلى المكاشفة و الإشباع و الإحالة أحيانا كما في العنوان الذي تصدّر فصول " الخرف " الهاربة من مذكرات كاتب الأسفار ، فلا تأتي كلمة الخرف عبثا بل لصنع الإحالة و قابلية التأويل ، فهل يكون الشايب إفرازا لمخيلة الكتاب صادق بوحدب ؟ خصوصا حين يتشارك مع شخصية " أم اللوه " بوصف مميز و هو فك أسنان منظم يخلو من ناب ،و هو الوصف الذي تشاركته " أم اللوه " مع أم صنقور و من ثم تشاركت مع سمكة العنفوز بوجود الثؤلول .
و أم حدب هي الشخصية المحورية التي تدرك بكامل وعيها أنها شخصية تتحرك في فضاء رواية يكتبها كاتب الأسفار ، و يحرص " الشايب" على تنبيه الكاتب ألا يعبث معها و يستهجن صورتها المكتوبة كامرأة حدباء برصاء يستفز الثؤلول النافر في وجهها الناظرَ إليها ، و التي يعطيها الكاتب اسمه فتصير " الصاجة أم حدب " و هو صادق بو حدب : كاتب يعنون مذكراته المكتوبة عتبة للأسفار بـ : فصول الخرف ، و يبدأ بدوره بالشك بذاته في قفلة السفر الثاني ، ويتبع دعوة الشايب إذ أكد له أن الرواية تصنع " له" مشكلة خاصة مع نفسه ، فهل يضمن كاتبنا " الأعلى " لفظة الخرف في هذه الفصول عبثا ؟
ب-مقدمات الفصول الشعرية التي شكلت تمهيدا و تصورا أوليا يوضّب المكان الروائي .
ما تلقيه ذخيرة أيام الوعي و الخرف على كاتب أسفار مدينة الطين
" و ابتسم كاشفا عن صف أسنان سليم لولا سقوط أحد أنيابه ، سألته كيف تدخلني الحكايات في مشكلة ؟ و مع من ؟ "
" مع نفسك "
يُحسب لأي كاتب تفرده في مشاريعه الأدبية ، كما يُثمن " تركيزه " على قضايا معينة ، أو مِهاد حكائي خاص تتحرك فيه الأحداث ، و الكاتب الكويتي سعود السنعوسي في عمله الراوئي الجديد المعنون بـ أسفار مدينة الطين و الصادر بجزأيه الأول و الثاني عن دار " مولاف " ، يمازج بين التجربتين – التفرد و التركيز – عبر تقنية السرد حمال الأوجه . إذا أنه يقدم في هذا العمل جِدة على المستوى الفني في الوقت الذي يعود فيه – كطير المولاف – إلى مِهاد المكان الحكائي الزاخر بـ : المُحاكاة – التخييل – و التمثيل بالأسطورة . دون أن يُحصر فضاء الرواية في هذه الثلاثة مفاهيم .
تشبه الرواية غرفة منسقة بدمى ماتروشكا – دمية في قلب دمية – و حكاية في جوف حكاية ، أو ربما التعبير الأنسب هو : خرائط تقود إلى خرائط و دليل يعزز أثر دليل ، ثم أحداث " تتناظر" في مرايا السرد لتصل إلى مستوى يفوق الترميز إلى بُعد آخر قد يسمى " ترميز الترميز " ، ولا مبالغة في تأكيد استحالة إهمال أي تفصيل بل أي سطر حتى يتماهى التلقي مع روح العمل و يقترب من حِيله مستعملا طاقة وعيه القصوى ، و مع ذلك لا يمكن القول أن العمل بتجريده من الحيل يٌخفق في تحقيق هدف السرد الأول و هو الإمتاع ودهشة تتبع الحبكة ،إذ بالإمكان أن يُتلقى على مستوى الحكاية الواضحة ، تلك التي تدور في حقبة مٌهملة من تاريخ الكويت ، وتتعرض لتفاصيل معارك معروفة كمعركة الجهراء أو مجهولة كمعركة " حمض " ، و تجول في بيوت الطين بمكابدات بقائها و عوزها و صراعات شخوصها المتعددة و المنساقة إلى مآزق الهوية كما في حكاية سعدون و خليفة و عاموس بن شاؤول و مبروكة ، و شظف المعيشة كما في قصص الغاصة و أثقال ديونهم ،و متاعب انتظار عودة سفن الغوص على اللؤلؤ كما في حكايات انتظار النساء المتشحات بالسواد على السيف المشتاق أو مواجهات الغاصة و أهل " الخشب " لمزاجية البحر و غدر سكّانه ، و تتعرض أيضا إلى ثقافة المهاد الروائي بطبيعته المتوجسة من كل جديد أو دخيل كما في تعالقه مع أفراد البعثة الطبية التبشيرية الأجنبية و غيرها مما يُحرز الهدف الأبلغ للقص .
كون من سرد :
كعادة الناص يبتكر كونا روائيا يسعى لاكتماله الذاتي حتى يوشك أن يوقع متلقيه بظنة التجريد الأقصى من كل علائق الواقع ، كأن الرواية بعناصرها :
-المتجانسة : كما في محاكاة تاريخ المكان و حوادثه و جغرافيته .
-التخييلية : كما في ابتكار أحداث من الخيال تُبتنى على شخصيات و عناصر من الواقع حيث ولّد الناص من خلال شخصية إلينور كالفري و الشيخ سالم بن صباح و السيد القزويني و غيرهم تفاعلات سردية ترسم ملامح النص و تدير أحداثه .
-المتضادة : كما في الاشتغال على المواريث الأسطورية و تضمينها في جسد النص بحيث تشكل عجلات محركة للحبكة.
-المتناظرة : كما في تطوير العناصر إلى رمزيات تناظر رمزيات أخرى بحيث صارت ( مبروكة الأولى تناظر القطة إلينور ) و ( أم اللوه تناظر أم صنقور و سمكة العنفوز و ربما الشايب أيضا ) و ( بئر برقان النفطي يناظر برقان أبي العجائب صاحب المقام الخفي في الصحراء و أبي الملوك السبعة ) ..و بالتأكيد غيرها الكثير .
-التمثيلية : كما في تشكيل ملامح النص من خلال :
أ-عناوين الفصول التي تتفاعل مع المتن بعلاقة ناظمة لتحريك الحدث فلا يقتصر دورها على التمهيد له بل يمتد إلى المكاشفة و الإشباع و الإحالة أحيانا كما في العنوان الذي تصدّر فصول " الخرف " الهاربة من مذكرات كاتب الأسفار ، فلا تأتي كلمة الخرف عبثا بل لصنع الإحالة و قابلية التأويل ، فهل يكون الشايب إفرازا لمخيلة الكتاب صادق بوحدب ؟ خصوصا حين يتشارك مع شخصية " أم اللوه " بوصف مميز و هو فك أسنان منظم يخلو من ناب ،و هو الوصف الذي تشاركته " أم اللوه " مع أم صنقور و من ثم تشاركت مع سمكة العنفوز بوجود الثؤلول .
و أم حدب هي الشخصية المحورية التي تدرك بكامل وعيها أنها شخصية تتحرك في فضاء رواية يكتبها كاتب الأسفار ، و يحرص " الشايب" على تنبيه الكاتب ألا يعبث معها و يستهجن صورتها المكتوبة كامرأة حدباء برصاء يستفز الثؤلول النافر في وجهها الناظرَ إليها ، و التي يعطيها الكاتب اسمه فتصير " الصاجة أم حدب " و هو صادق بو حدب : كاتب يعنون مذكراته المكتوبة عتبة للأسفار بـ : فصول الخرف ، و يبدأ بدوره بالشك بذاته في قفلة السفر الثاني ، ويتبع دعوة الشايب إذ أكد له أن الرواية تصنع " له" مشكلة خاصة مع نفسه ، فهل يضمن كاتبنا " الأعلى " لفظة الخرف في هذه الفصول عبثا ؟
ب-مقدمات الفصول الشعرية التي شكلت تمهيدا و تصورا أوليا يوضّب المكان الروائي .
جـ-انطباعية الخطوط المائلة و الفراغات و التظليل و بتر النص و ما يوحي بمسودات العمل و الملاحق و السيرة الذاتية للكتاب الضمنيون كـ ( كاتب الأسفار و محرر وزارة الإعلام و محاورات الشخوص المرتفعة إلى كاتبهم العالي ) .
د-اللوحات التشكيلية لـ مشاعل الفيصل و التي تمثل نصا موازيا للعمل و أحيانا مكملا له ، كما في فصل انتحار سعدون . وليس القصد أن الكتابة المجردة لم تكن هنا كافية لفهم الحدث حيث أمكن من خلال استنطاق النص بعنوانه و متنه و حواشيه و معاودة تدبره الوصول إلى المعنى غير أن اللوحة بدت عنصرا مكملا و مساعدا لجعل عملية التلقي أكثر انسيابية ..
من خلال كل ذاك بدت الرواية كونا مستقلا بذاته ، يسعى لاكتماله و يقطع صلته بالواقع أو يكرس له واقعا خاصا بحيث يعيش المتلقي الرواية بالرواية ، منغمسا بعالمها .
تناسق الأحاجي وصولا لسؤال القضية الكبرى :
تتشكل رواية أسفار الطين بجزأيها وفق منظومة الأحاجي و الحيل ، و تصل بقارئها عبر هذه البنية السردية التي تنسق بين وظائف الرواية و عناصرها بصورة مبتكرة ترفع من مستوى التلقي إلى ذروة وعيه ، فتصير الأحجية بابا للسؤال و السؤال باب للتأمل ، و التأمل محاورة ذاتية خالصة لقضية الرواية الكبرى التي أظن أنها تدور حول العلاقة الجدلية بين الإنسان و قدره. إن سؤال المصير حيّر سائله و بعثر استقراره ، و انعكس ذلك على كل شخوص الرواية التي تكابد – من خلال وعيها الذاتي – وصولا إلى الطمأنينة .
فالصاجة أم حدب – التي تعي كينونتها الروائية - تقايض كاتب الأسفار بالانصياع لتنفيذ خطته التي تراها ذنبا عظيما للتخلص من حدبتها . و سعدون الذي يغرّبه حب الرب عن سمت أسرته فيتيه بين قبول المصير و الضلال و يسعى للمغفرة الأبوية المشروطة بإثمار الصوف ، و هذا الحدث بالذات صنع مفارقة لافتة في العمل ، إذ أن كاتب الأسفار تحنن على سعدون المارق و أثمر في أرض المنسى الصوف الذي لا يثمر دلالة متجلية على المغفرة . و سليمان الذي يشقيه قبول المصير فيلتوي عليه بالغرق قابلا بمغامرة الموت و الحياة منصتا للصاجات اللاتي كان يحكم على نبوءاتهن بالبدعة التي تصل إلى الكفر . أليس هذه الصور هي واقع الإنسان و ملامح علاقته الشائكة مع قدره بين عبثية الشك و ألم القبول ، أو سلامة الفهم و طمأنينة الرضا .
لقد تضمنت الرواية في متن سردها مقاطع هامة ، و دالة ، تستمر في محاورة ذلك القدر العالي المرمز بكاتب الأسفار ؛ مقاطع يظهر فيها وعي الشخصية الكامل حين تناقش كاتبها ، تجادله و تضيف عليه لتكمل الصورة ، أو تخطئه أحيانا و تسكته . و في محاورة ساطور العرد ص 274 ينتقل كاتب الأسفار من تقنية سرد الراوي العليم إلى الخطاب المباشر لساطور في خطفة مدهشة ، تكشف تبلبل ساطور الداخلي ، و امهزاميته المغلفة بالقسوة و الخيانة ، إذ يستمر الجدال ما بينه و بين كاتب الأسفار إلى الإفضاء إلى اللعن ، و تلك انتقالية مدهشة ، لم تعتمد من الناص ترفا إنما من خلالها – فقط – تتكشف أعماق الشخصية و مآزقها عبر سرد لا يميل إلى الوصفية النمطية .
تلك الاشتغالات التجريبية في الرواية رفعتها إلى مستوى أعلى في التلقي ، و هذا هو المقصود باحتياج المتلقي إلى كامل وعيه المتحفز من خلال تلك الأحاجي و المحاورات و بنية الرواية التجريبة بشكل عام .
مرور عابر لعناصر الرواية :
إن الحديث عن مسطرة العناصر في الرواية يعد عبثا في هذا العمل ، فمع ذلك الاشتغال التجريبي ، و ذلك المستوى الذي وصلت إليه الرواية ، قد يكون من الترف التطرق لخط الزمان الذي بعثره الرواي بين الحاضر و الاستباق و الاسترجاع الجواني و البراني . أو أن يتم التطرق للشخصيات بأبعادها و رمزياتها ، خصوصا إذا وصلنا إلى نتيجة حتمية مفادها : ألا( مكون ) في الراوية يعد هامشيا .
إن مكونات النص من :
1- مهاد مكاني متعدد بين البحر ، و اليابسة ، و الحاضرة و جزيرة فيلكا ، و البيوت ، و وعي الشخوص ، و مكتب كاتب الأسفار ..
2- زمن مرن قابل للتمدد و الضغط و العبور أحيانا كما في الأثمون ..
3- شخوص تمتد لرمزيات ..
4-أشياء محركة للنص و ذات دلالات و إحالات كما في : ماء الغريب – صخرة الساحل السوداء -البيص – قلادة الأضلاف - عصا أم حدب - صولجان أم حدب و غيرها ..
5- كائنات متعددة واقعية و أسطورية لا تُقحم في النص عبثا إنما تحركه أو تساهم في تجليته و تصير إما عناصر متناظرة مع شخوصه أو كواشفه مثل : طيور الغاق ، سمكة العنفوز ، قطط خليفة ، بلبل شاؤول ، شيوخ البحر الستة – السبعة ..
6- لغة متولدة من صميم المكان ، قادرة على المحافظة على فصاحتها في الوقت الذي تعزز فيه انتماءها إليه ، فالمفردات مشبعة بنكهة المكان ، مُحيلة إليه ، قادرة على صنع التناغم بين المكان و الحدث و اللغة و حوارات الشخوص ، بل تكمل صورة الشخصية في ذهن المتلقي من خلال ألفاظه و تقنيات حواره و المفردات التي تحمل طابع اللهجة بفصاحة كاملة ..
د-اللوحات التشكيلية لـ مشاعل الفيصل و التي تمثل نصا موازيا للعمل و أحيانا مكملا له ، كما في فصل انتحار سعدون . وليس القصد أن الكتابة المجردة لم تكن هنا كافية لفهم الحدث حيث أمكن من خلال استنطاق النص بعنوانه و متنه و حواشيه و معاودة تدبره الوصول إلى المعنى غير أن اللوحة بدت عنصرا مكملا و مساعدا لجعل عملية التلقي أكثر انسيابية ..
من خلال كل ذاك بدت الرواية كونا مستقلا بذاته ، يسعى لاكتماله و يقطع صلته بالواقع أو يكرس له واقعا خاصا بحيث يعيش المتلقي الرواية بالرواية ، منغمسا بعالمها .
تناسق الأحاجي وصولا لسؤال القضية الكبرى :
تتشكل رواية أسفار الطين بجزأيها وفق منظومة الأحاجي و الحيل ، و تصل بقارئها عبر هذه البنية السردية التي تنسق بين وظائف الرواية و عناصرها بصورة مبتكرة ترفع من مستوى التلقي إلى ذروة وعيه ، فتصير الأحجية بابا للسؤال و السؤال باب للتأمل ، و التأمل محاورة ذاتية خالصة لقضية الرواية الكبرى التي أظن أنها تدور حول العلاقة الجدلية بين الإنسان و قدره. إن سؤال المصير حيّر سائله و بعثر استقراره ، و انعكس ذلك على كل شخوص الرواية التي تكابد – من خلال وعيها الذاتي – وصولا إلى الطمأنينة .
فالصاجة أم حدب – التي تعي كينونتها الروائية - تقايض كاتب الأسفار بالانصياع لتنفيذ خطته التي تراها ذنبا عظيما للتخلص من حدبتها . و سعدون الذي يغرّبه حب الرب عن سمت أسرته فيتيه بين قبول المصير و الضلال و يسعى للمغفرة الأبوية المشروطة بإثمار الصوف ، و هذا الحدث بالذات صنع مفارقة لافتة في العمل ، إذ أن كاتب الأسفار تحنن على سعدون المارق و أثمر في أرض المنسى الصوف الذي لا يثمر دلالة متجلية على المغفرة . و سليمان الذي يشقيه قبول المصير فيلتوي عليه بالغرق قابلا بمغامرة الموت و الحياة منصتا للصاجات اللاتي كان يحكم على نبوءاتهن بالبدعة التي تصل إلى الكفر . أليس هذه الصور هي واقع الإنسان و ملامح علاقته الشائكة مع قدره بين عبثية الشك و ألم القبول ، أو سلامة الفهم و طمأنينة الرضا .
لقد تضمنت الرواية في متن سردها مقاطع هامة ، و دالة ، تستمر في محاورة ذلك القدر العالي المرمز بكاتب الأسفار ؛ مقاطع يظهر فيها وعي الشخصية الكامل حين تناقش كاتبها ، تجادله و تضيف عليه لتكمل الصورة ، أو تخطئه أحيانا و تسكته . و في محاورة ساطور العرد ص 274 ينتقل كاتب الأسفار من تقنية سرد الراوي العليم إلى الخطاب المباشر لساطور في خطفة مدهشة ، تكشف تبلبل ساطور الداخلي ، و امهزاميته المغلفة بالقسوة و الخيانة ، إذ يستمر الجدال ما بينه و بين كاتب الأسفار إلى الإفضاء إلى اللعن ، و تلك انتقالية مدهشة ، لم تعتمد من الناص ترفا إنما من خلالها – فقط – تتكشف أعماق الشخصية و مآزقها عبر سرد لا يميل إلى الوصفية النمطية .
تلك الاشتغالات التجريبية في الرواية رفعتها إلى مستوى أعلى في التلقي ، و هذا هو المقصود باحتياج المتلقي إلى كامل وعيه المتحفز من خلال تلك الأحاجي و المحاورات و بنية الرواية التجريبة بشكل عام .
مرور عابر لعناصر الرواية :
إن الحديث عن مسطرة العناصر في الرواية يعد عبثا في هذا العمل ، فمع ذلك الاشتغال التجريبي ، و ذلك المستوى الذي وصلت إليه الرواية ، قد يكون من الترف التطرق لخط الزمان الذي بعثره الرواي بين الحاضر و الاستباق و الاسترجاع الجواني و البراني . أو أن يتم التطرق للشخصيات بأبعادها و رمزياتها ، خصوصا إذا وصلنا إلى نتيجة حتمية مفادها : ألا( مكون ) في الراوية يعد هامشيا .
إن مكونات النص من :
1- مهاد مكاني متعدد بين البحر ، و اليابسة ، و الحاضرة و جزيرة فيلكا ، و البيوت ، و وعي الشخوص ، و مكتب كاتب الأسفار ..
2- زمن مرن قابل للتمدد و الضغط و العبور أحيانا كما في الأثمون ..
3- شخوص تمتد لرمزيات ..
4-أشياء محركة للنص و ذات دلالات و إحالات كما في : ماء الغريب – صخرة الساحل السوداء -البيص – قلادة الأضلاف - عصا أم حدب - صولجان أم حدب و غيرها ..
5- كائنات متعددة واقعية و أسطورية لا تُقحم في النص عبثا إنما تحركه أو تساهم في تجليته و تصير إما عناصر متناظرة مع شخوصه أو كواشفه مثل : طيور الغاق ، سمكة العنفوز ، قطط خليفة ، بلبل شاؤول ، شيوخ البحر الستة – السبعة ..
6- لغة متولدة من صميم المكان ، قادرة على المحافظة على فصاحتها في الوقت الذي تعزز فيه انتماءها إليه ، فالمفردات مشبعة بنكهة المكان ، مُحيلة إليه ، قادرة على صنع التناغم بين المكان و الحدث و اللغة و حوارات الشخوص ، بل تكمل صورة الشخصية في ذهن المتلقي من خلال ألفاظه و تقنيات حواره و المفردات التي تحمل طابع اللهجة بفصاحة كاملة ..
إن تلك المكونات تنسجم في لوحة السرد لتكمل بعضها ، دون أن تُقحم فترهل النص أو تخرق كثافته ، و قريبا من هذا التفصيل ؛ يستمر الناص في بناء نصه قافزا على توقعات الممكن و اللاممكن في العمل الروائي ، مقدما باشتغاله التجريبي هذا معايير جديرة بالتأمل في الكتابة الروائية . و بجزأي أسفار مدينة الطين : سفر العباءة و سفر التبة ، ثمة نص يحمل وجهي الاكتفاء و الجوع ، الاكتفاء بنص يفضي من جوهره إلى جوهره و يكمل ذاته بذاته ، و الجوع إلى مطاردة الحيل والأحاجي و الأسئلة المعلقة تطلعا للجزء الثالث المرتقب .
سكين النحت
ينحت في صلصال الإنسان وجع العالم
لطالما أُعجبت بحيلة الكاتب الذي يمرر وجعه دون اللجوء إلى اللغة البكاءة ، و يرسم المحنة و القلق و الخيبة و السؤال عبر تشكيل لغوي قادر على القفز على حواجز المحدود إلى اللا محدود ، فيصير النص حينها ناطقا بوجعه الأصيل و قادرا على قول المزيد ، أو يصير بؤرة مانحة بلا حد .
الكاتبة أفراح الهندال في مجموعتها القصصية " سكين النحت " و الصادرة حديثا عبر المؤسسة العربية للدراسات و النشر تلتقط من قلق الكائن ما يشكل منظومة فنية كبرى ، تستنطق الإنسان و الكون ، و مأزق الوجود في عالم مجنون تتوارى إنسانيته و تتبدى وحشيته .
جاءت المجموعة متنوعة ، تقدم قصصا قصيرة و قصصا قصيرة جدا ، تنظمها الناصة وفق نسق خاص ، تبدؤه بعتبة مقتنصة من مقتبسات تتفاعل تفاعلا خاصا مع النصوص المتوالية ، ليصير المضمون الكلي متناغما ، سيالا بالنسق و العتبات ، مما يرفع منسوب التأثير .
حاورت الناصة قضايا عديدة ، من فردانية الذات إلى وجع العالم ، من الطفولة المسحوقة إلى حيرة الجدة التي تطلب اهتماما عبر دخولها إلى أبواب البيت المختلفة و قطعها أحاديث الأحفاد ، من شتات الحروب إلى هواجس الكُتاب و أخيلة الشعراء ، من جوع الفقراء إلى أقفاص الأُسر المسمومة التي تخاف من ريش ينبت في خيال أفرادها المقيدين .
تقول الناصة في نص غرفتب قفص صغير :
" عرفت أنه كان يُفتش عن الريش في غرفتي حين وجدت من بين الأوراق المجعدة قصاصة كتبتُ فيها " ليتني حمامة " .
.
.
مجموعة سكين النحت تؤكد أن القصة منظومة فنية كاملة ، قادرة عبر أدواتها الجادة على سحب أنفاس المتلقي ، إذ جاءت لغة الكاتبة مانحة و مديرة لعجلة الحدث و ما قبله و ما بعده ، و تكوين النص بشكل عام بدا ملغوما بالاحتمالات التي تفجر آفاقا " ممكنة " للحكاية .
ينحت في صلصال الإنسان وجع العالم
لطالما أُعجبت بحيلة الكاتب الذي يمرر وجعه دون اللجوء إلى اللغة البكاءة ، و يرسم المحنة و القلق و الخيبة و السؤال عبر تشكيل لغوي قادر على القفز على حواجز المحدود إلى اللا محدود ، فيصير النص حينها ناطقا بوجعه الأصيل و قادرا على قول المزيد ، أو يصير بؤرة مانحة بلا حد .
الكاتبة أفراح الهندال في مجموعتها القصصية " سكين النحت " و الصادرة حديثا عبر المؤسسة العربية للدراسات و النشر تلتقط من قلق الكائن ما يشكل منظومة فنية كبرى ، تستنطق الإنسان و الكون ، و مأزق الوجود في عالم مجنون تتوارى إنسانيته و تتبدى وحشيته .
جاءت المجموعة متنوعة ، تقدم قصصا قصيرة و قصصا قصيرة جدا ، تنظمها الناصة وفق نسق خاص ، تبدؤه بعتبة مقتنصة من مقتبسات تتفاعل تفاعلا خاصا مع النصوص المتوالية ، ليصير المضمون الكلي متناغما ، سيالا بالنسق و العتبات ، مما يرفع منسوب التأثير .
حاورت الناصة قضايا عديدة ، من فردانية الذات إلى وجع العالم ، من الطفولة المسحوقة إلى حيرة الجدة التي تطلب اهتماما عبر دخولها إلى أبواب البيت المختلفة و قطعها أحاديث الأحفاد ، من شتات الحروب إلى هواجس الكُتاب و أخيلة الشعراء ، من جوع الفقراء إلى أقفاص الأُسر المسمومة التي تخاف من ريش ينبت في خيال أفرادها المقيدين .
تقول الناصة في نص غرفتب قفص صغير :
" عرفت أنه كان يُفتش عن الريش في غرفتي حين وجدت من بين الأوراق المجعدة قصاصة كتبتُ فيها " ليتني حمامة " .
.
.
مجموعة سكين النحت تؤكد أن القصة منظومة فنية كاملة ، قادرة عبر أدواتها الجادة على سحب أنفاس المتلقي ، إذ جاءت لغة الكاتبة مانحة و مديرة لعجلة الحدث و ما قبله و ما بعده ، و تكوين النص بشكل عام بدا ملغوما بالاحتمالات التي تفجر آفاقا " ممكنة " للحكاية .
دار خولة : جدلية البقاء و الفناء
تشيّد الروائية الكويتية بثينة العيسى مسارا جديدا في عالمها الكتابي ، يبدو لوهلة أولى عملا منطلقا من الهموم الاجتماعية للواقع المعيش ، و مآزق الإنسان المعاصر التي تُفتح على صراع الأجيال و خطوط التأثير الفكري للقوى الناعمة و الاستلاب الذي يٌمارس على الجيل ، و هذا بالطبع انطباع أولي لا يخلو من الصحة ، غير أن قارئ عملها الجديد المعنون بـ " دار خولة " و الصادر حديثا عبر منشورات تكوين سيكتشف عبر هذا المسار الجديد حقولا دلالية أخرى ، شاسعة جدا ، و خليقة بالتفكر . فالرواية على قالبها المكثف الذي يحيلنا لتجربة " نوفيلا " محدودة المهاد الزماني و المكاني ، الرواية هذه تشبه هزة ارتدادية ، مفجعة بـ ( الأسئلة و الرمزيات ) .
و قبل محاولة استقراء تلك الرمزيات لابد من التأكيد على أن ( دار خولة ) عمل سردي قافز على توقعات القارئ المتتبع لأعمال الكاتبةالتي اتسمت بالنفس الروائي الطويل و اللغة البليغة أو لنقل اللغة التمثيلية التي لطالما كانت رافدا من روح العمل ، ترفعه إلى أعلى مستويات التلقي و تشاطر: الحكاية و الحبكة و مآلات الشخوص ..البطولة و التأثير .
على أن هذه القفزة لا تستمد ألقها من الجِدة ؛فليست الجِدة معيارا لمتانة العمل لكنها تؤكد على أن بثينة العيسى تبرع في ما تفعل ، و على أن الإبداع المقرون بالتأثير لا يؤطر بأطر محددة ، فالناص " المؤثر " قد يقدم خطابه عبر نص روائي طويل ، أو نص مختزل ، أو نوفيلا كـ دار خولة : بمعمارها المكثف تفتح عباراتها المحدودة أبوابا عديدة للفكرة و الإسقاطات .
إن " دار خولة " بفصولها القصيرة ، و حواراتها الوليدة من رحم الحياة اليومية و ملامحها المعاصرة عمل تتلاقح فيه "الأصالة بالحداثة " و " المحدود باللامحدود " و يستمر من خلاله جدل التنقيب عن ثنائيات الخير و الشر في العمل ، بحيث يبقى المتلقي يحاور الشخوص التي قُدمت جميعها بمنظور الرواي العليم القريب ، أو الراوي العليم الغير موثوق به ، أو الرواي العليم المتعاطف مع الشخصية التي يحكيها – و هذا بالمناسبة لون خاص من السرد تبرع به الكاتبة - إذ يحتار حينها بوجه من يقف و مع من يتعاطف و أي من تلك الشخصيات سينحاز إليه و ربما يقف في صفه .
غير أن لعبة بثينة العيسى هي إخراج النص من غلافه المثالي لمحاورة الواقع و تمثيله باللغة الحسية النابضة ذات التضاريس ، لتتم مواجهته كما هو ، بلا رتوش و لا تزييف ،و بلا شخصيات ورقية تخرج من رواية متينة مكتوبة بأدوات سليمة ، بل بشخصيات من لحم و دم و فرادة تستمر بالإحالة للواقع ، حتى لكأن ضيفها القارئ يسمعها بصوتها و يشعر بحرارتها .
يدور العمل حول شخصية " خولة سليمان " و هي دكتورة التراث زوجة الشاعر قتيبة المتسمة بشخصية فريدة ، ناقدة ، بل مبالغة بنقد المجتمع ، و التي تعتمد على رؤاها الخاصة في تشكيل دستورها الحازم في معايرة ( المجتمع : الناس و الحياة ).
لخولة ثلاثة أبناء : ناصر – يوسف – حمد ، لكل منهم أسلوب مغاير في التعاطي معها وفق اتجاهين :
-خولة الأم .
-خولة الدكتورة : الشخصية الجدلية المشهورة .
و هذا التعاطي المتباين يبدأ من الفكرة الباطنية المشكلة منذ الطفولة الأولى و المارة بتجارب الصبا و سنوات النضج و من ثم ينطلق إلى الظاهر حيث مساحة التعالق المباشر .
تنمو الرواية في خط زمني محدود ، يبدأ منذ الصباح الذي أقرت فيه خولة أنها تكره التصابي و التأمرك ، و تعتز فيه بأوشحة الزمن و تقرر أن تجمع أبناءها على وجبة ودية كأية عائلة تلتم على ذاتها ، و تنتهي الرواية في مساء ذات اليوم حين يعود حمد أصغر الأبناء إلى البيت ليجده غارق في عتمته ، و ما بين البداية و النهاية ؛ و محدوية المدى الزمني و المهاد المكاني تناقش الرواية العديد من الأفكار ( عبر السرد و الوصف و الحوار ) ، حول المجتمع و الهوة بين الأجيال و سلطة الجماهير و غيرها .
هذا الوجه الأول للرواية ، بنقاشه لمشكلات الإنسان المعاصر ، قدّم بُعدا بالغ العمق في العمل ، و بدا كأنه يقول كل شيء و يفرد في وجه المتلقي كل هم ، كل قلق ، كل هواجس الصراع بين الأبوة و البنوة ، و مفاهيم الأصالة و التجديد ، و هذا أمر عظيم في الرواية . لكن هل هذا كل شيء ؟
أعتقد أن الكاتبة ، شكلت المعمار السردي بدقة متناهية ، و حسابات تبدأ من العتبة و تمر بالغلاف إلى اختيار الأسماء ، و تأثيث بيئة الصراع المكانية : حيث دار خولة بغرفة المعيشة و المطبخ و حوض السمك الخالي إلا من فقاعات الهواء ، مرورا بالحبكة الواعية على عبثيتها و انتهاء بالقفلة المفجعة .
فلم يكن عشوائيا عنونة العمل بـ " دار خولة " ، فخولة هي الأم ، و الأم هي الوطن ، و الوطن هو عالمنا الكبير ، و الأبناء هم فئات الشعب ، هم الأسماك التي تأكل بعضها بعضا ، و قد تحزبت و افترقت و تصارعت ما بين :
تشيّد الروائية الكويتية بثينة العيسى مسارا جديدا في عالمها الكتابي ، يبدو لوهلة أولى عملا منطلقا من الهموم الاجتماعية للواقع المعيش ، و مآزق الإنسان المعاصر التي تُفتح على صراع الأجيال و خطوط التأثير الفكري للقوى الناعمة و الاستلاب الذي يٌمارس على الجيل ، و هذا بالطبع انطباع أولي لا يخلو من الصحة ، غير أن قارئ عملها الجديد المعنون بـ " دار خولة " و الصادر حديثا عبر منشورات تكوين سيكتشف عبر هذا المسار الجديد حقولا دلالية أخرى ، شاسعة جدا ، و خليقة بالتفكر . فالرواية على قالبها المكثف الذي يحيلنا لتجربة " نوفيلا " محدودة المهاد الزماني و المكاني ، الرواية هذه تشبه هزة ارتدادية ، مفجعة بـ ( الأسئلة و الرمزيات ) .
و قبل محاولة استقراء تلك الرمزيات لابد من التأكيد على أن ( دار خولة ) عمل سردي قافز على توقعات القارئ المتتبع لأعمال الكاتبةالتي اتسمت بالنفس الروائي الطويل و اللغة البليغة أو لنقل اللغة التمثيلية التي لطالما كانت رافدا من روح العمل ، ترفعه إلى أعلى مستويات التلقي و تشاطر: الحكاية و الحبكة و مآلات الشخوص ..البطولة و التأثير .
على أن هذه القفزة لا تستمد ألقها من الجِدة ؛فليست الجِدة معيارا لمتانة العمل لكنها تؤكد على أن بثينة العيسى تبرع في ما تفعل ، و على أن الإبداع المقرون بالتأثير لا يؤطر بأطر محددة ، فالناص " المؤثر " قد يقدم خطابه عبر نص روائي طويل ، أو نص مختزل ، أو نوفيلا كـ دار خولة : بمعمارها المكثف تفتح عباراتها المحدودة أبوابا عديدة للفكرة و الإسقاطات .
إن " دار خولة " بفصولها القصيرة ، و حواراتها الوليدة من رحم الحياة اليومية و ملامحها المعاصرة عمل تتلاقح فيه "الأصالة بالحداثة " و " المحدود باللامحدود " و يستمر من خلاله جدل التنقيب عن ثنائيات الخير و الشر في العمل ، بحيث يبقى المتلقي يحاور الشخوص التي قُدمت جميعها بمنظور الرواي العليم القريب ، أو الراوي العليم الغير موثوق به ، أو الرواي العليم المتعاطف مع الشخصية التي يحكيها – و هذا بالمناسبة لون خاص من السرد تبرع به الكاتبة - إذ يحتار حينها بوجه من يقف و مع من يتعاطف و أي من تلك الشخصيات سينحاز إليه و ربما يقف في صفه .
غير أن لعبة بثينة العيسى هي إخراج النص من غلافه المثالي لمحاورة الواقع و تمثيله باللغة الحسية النابضة ذات التضاريس ، لتتم مواجهته كما هو ، بلا رتوش و لا تزييف ،و بلا شخصيات ورقية تخرج من رواية متينة مكتوبة بأدوات سليمة ، بل بشخصيات من لحم و دم و فرادة تستمر بالإحالة للواقع ، حتى لكأن ضيفها القارئ يسمعها بصوتها و يشعر بحرارتها .
يدور العمل حول شخصية " خولة سليمان " و هي دكتورة التراث زوجة الشاعر قتيبة المتسمة بشخصية فريدة ، ناقدة ، بل مبالغة بنقد المجتمع ، و التي تعتمد على رؤاها الخاصة في تشكيل دستورها الحازم في معايرة ( المجتمع : الناس و الحياة ).
لخولة ثلاثة أبناء : ناصر – يوسف – حمد ، لكل منهم أسلوب مغاير في التعاطي معها وفق اتجاهين :
-خولة الأم .
-خولة الدكتورة : الشخصية الجدلية المشهورة .
و هذا التعاطي المتباين يبدأ من الفكرة الباطنية المشكلة منذ الطفولة الأولى و المارة بتجارب الصبا و سنوات النضج و من ثم ينطلق إلى الظاهر حيث مساحة التعالق المباشر .
تنمو الرواية في خط زمني محدود ، يبدأ منذ الصباح الذي أقرت فيه خولة أنها تكره التصابي و التأمرك ، و تعتز فيه بأوشحة الزمن و تقرر أن تجمع أبناءها على وجبة ودية كأية عائلة تلتم على ذاتها ، و تنتهي الرواية في مساء ذات اليوم حين يعود حمد أصغر الأبناء إلى البيت ليجده غارق في عتمته ، و ما بين البداية و النهاية ؛ و محدوية المدى الزمني و المهاد المكاني تناقش الرواية العديد من الأفكار ( عبر السرد و الوصف و الحوار ) ، حول المجتمع و الهوة بين الأجيال و سلطة الجماهير و غيرها .
هذا الوجه الأول للرواية ، بنقاشه لمشكلات الإنسان المعاصر ، قدّم بُعدا بالغ العمق في العمل ، و بدا كأنه يقول كل شيء و يفرد في وجه المتلقي كل هم ، كل قلق ، كل هواجس الصراع بين الأبوة و البنوة ، و مفاهيم الأصالة و التجديد ، و هذا أمر عظيم في الرواية . لكن هل هذا كل شيء ؟
أعتقد أن الكاتبة ، شكلت المعمار السردي بدقة متناهية ، و حسابات تبدأ من العتبة و تمر بالغلاف إلى اختيار الأسماء ، و تأثيث بيئة الصراع المكانية : حيث دار خولة بغرفة المعيشة و المطبخ و حوض السمك الخالي إلا من فقاعات الهواء ، مرورا بالحبكة الواعية على عبثيتها و انتهاء بالقفلة المفجعة .
فلم يكن عشوائيا عنونة العمل بـ " دار خولة " ، فخولة هي الأم ، و الأم هي الوطن ، و الوطن هو عالمنا الكبير ، و الأبناء هم فئات الشعب ، هم الأسماك التي تأكل بعضها بعضا ، و قد تحزبت و افترقت و تصارعت ما بين :
"مسخ فرانكشتاين أمريكي و زائد دودية في أمعاء الدولة الريعية " و فئة ثالثة تنكفئ على ذاتها ، تهرب من مواجهة الماضي كي لا تلحقها لعنة الحاضر .
إن اختيار الكاتبة لرمزية السمكة في الغلاف ،و تطعيمها النص بحوض السمك الذي اقتات سكانه على أنفسهم يحيلنا إلى رمزية. السمك في الثقافة اليونانية و التي تدل على قداسة هذا الكائن لدى إلهة الحياة و الإنجاب ، و النص بوجهه الأول و الثاني مستغرق بقضايا الأمومة ، الأمومة اللامحدودة : أمومة السلطة و التكوين و الجراحات الأولى و الصراع بين ( التملك - الاستلاب ) .
و بإحالة أكثر خصوصية - و هذا من طبع النصوص الولادة التي تقول في كل استقراء كلاما جديدا – يستطيع المتلقي أن يطابق طبيعة حوض السمك على المجتمع الأخص ، فيستذكر كلمة " هامور " المتداولة في وصف فئة معينة من مجتمعه تستطيع بسلطتها أن تأكل السمك الصغير و تستفرد بالمكان .
على هذا ، يظهر السؤال موجعا ، في الاستدلال على الخطأ و الصواب ، في التمييز بين المفاهيم ، أتكون خولة الجانية ؟ أم أن الأبناء تاهوا و تغربوا ؟ و كيف ستنجو الأوطان و الأبناء ، فلا تصبح أطلالا ..لا يبكي عليها أحد .
إن اختيار الكاتبة لرمزية السمكة في الغلاف ،و تطعيمها النص بحوض السمك الذي اقتات سكانه على أنفسهم يحيلنا إلى رمزية. السمك في الثقافة اليونانية و التي تدل على قداسة هذا الكائن لدى إلهة الحياة و الإنجاب ، و النص بوجهه الأول و الثاني مستغرق بقضايا الأمومة ، الأمومة اللامحدودة : أمومة السلطة و التكوين و الجراحات الأولى و الصراع بين ( التملك - الاستلاب ) .
و بإحالة أكثر خصوصية - و هذا من طبع النصوص الولادة التي تقول في كل استقراء كلاما جديدا – يستطيع المتلقي أن يطابق طبيعة حوض السمك على المجتمع الأخص ، فيستذكر كلمة " هامور " المتداولة في وصف فئة معينة من مجتمعه تستطيع بسلطتها أن تأكل السمك الصغير و تستفرد بالمكان .
على هذا ، يظهر السؤال موجعا ، في الاستدلال على الخطأ و الصواب ، في التمييز بين المفاهيم ، أتكون خولة الجانية ؟ أم أن الأبناء تاهوا و تغربوا ؟ و كيف ستنجو الأوطان و الأبناء ، فلا تصبح أطلالا ..لا يبكي عليها أحد .
الإنسان في مركز الصراع
حول رواية الاستدارة الأخيرة لـ أحمد الزمام
" لقد أصبت بإرهاق شديد و يخيّل لي أني أركض على أسطوانة التاريخ التي لا تنفك تدور بلا توقف مقاوما السقوط إلى نهاية الحياة " ... الرواية
قدم الأدب العديد من التجارب الإنسانية ، و رفد الكثير من الأفكار ، ليحاكي التحولات و يستجيب للمتغيرات المتسارعة في الواقع ، و تأتي الرواية في طليعة هذه الأعمال التي تمس المتلقي بنحو شديد التأثير ، كلما صدقت مبانيها ، و أُحكم عمرانها .
رواية الاستدارة الأخيرة للكاتب الكويتي أحمد الزمام و الصادرة عن دار ميلاد -رشم – جدل ،رواية تحمل لمتلقيها تجرية إنسانية خالصة خارجة من اعتياد المألوف ، حاملة إنسانها –إنسان العمل – إلى مركز دائرة الصراع الذي يمتد صانعا ارتدادات متزايدة كلما تقدمت الأحداث .
إن هذه الرواية البليغة التأثير تحاكي الواقع بنحو مائز من التجريب ، بحيث أنها لا تدلقه بنمطيته ، بل تقدمه – مُرمزا - عبر مستويين ( متناظرين ) ، و دوائر عديدة من الحبكات . كي يكون ذلك التناظر مفتاحا لفهم الرواية – و بؤرة لدلالات المعنى ، و كي تقول الرواية لقارئها : الحكم الأخير لك ، لتقرر -بعد تلقي العمل – أن تدين أي جهة أو تقبل بأي جهة ، أو تقف مع إنسان الرواية في مركز الدائرة تماما- في المنتصف بلا تطرف - مقيدا بالأسئلة .
-التناظر و الصراع :
تقوم الرواية على صراع دائر بين سلطتين :الذكر و الأنثى ، و قبل أن نسم هذا الصراع بالطبيعي ، سنجد أن الرواية ترسمه بنحو مفجع ، قائم على : تهميش و امتهان و استضعاف كل طرف لآخر ، مما يجعل المهاد المكاني متشظ بسلطة طرف و مقموع بقهر طرف آخر في نطاق تبادلي بين السلطتين . وفي تلك الدائرة التي تبدو لا نهاية لها ، تتحرك الأحداث في مملكة – فانتازية – لها قوانينها و تفاصيلها و دستورها و طبقات شعبها ، و كل تلك العجائبية التي تحيل المتلقي لعمل ملحمي فريد من نوعه يُبدي صبرَ الكاتب و عنايته بالنص و تفاصيله .
في تلك الملحمة ، سيظهر جليا أن مملكة الرجل الخارجة من عمق سحيق من التاريخ ، ستناظر تماما مملكة الأنثى في البطش ، و ما بين المستويين المتناظرين العديد من الحبكات المتداخلة التي تحرك النص إلى وجهة يسعى لتوثيقها و إلى رسالة مبطنة لم تأت على ألسنة الشخوص و لم تنكشف في الأحداث غير أنها تتجلى بقوة في المصب الأخير التي تصب فيه جميع المآلات ، لتستمر الدائرة مرة أخرى . و هذا ما يمكن أن نسميه بالوجهة التي يتجه النص إليها ليخاطب المتلقي _إنسان التاريخ _ و يرشده إلى ضرورة فهم الحياة على كونها تكاملا و ليس صراعا .
إن التجارب الدموية التي قامت عليها مملكة الرجل ، لم تردع مبتدأ مملكة الأنثى من سلوك ذات الطريق ، مما صب المملكتين في المؤدى ذاته ، و استمر بشطر المجتمع إلى شطرين : مستبد و مستضعف ، و في قلب تلك الدائرة ظهرت شخصية النص : الفتى الكاتب ، المقدم بلا اسم ، الضاج بأسئلته .
و عادة ما تكون الشخصية هي ذاتا تتماهى مع الذات الجمعية في مجتمعها غير أن بطلنا ظهر في النص مختلفا ، لم يستطع أن يتماهى مع ضعف الرجل – في تلك الحقبة – و لم يقدر أن يستجيب لسلطة المرأة الباطشة بدءً من زوجة أبيه القاسية التي لقبها بالضفدعة إلى الملكة المجهولة ، و لم يستعر الكره الطافح في قلوب الرجال ضد المرأة فمال إلى نهج عمته التي لم تزل تجد أن الرجل كائن محترم يستحق الاحتفاء به ، و خفق قلبه للورا المتزنة .
هذه الشخصية التي تعاني أزمة الهوية لا تتكرر نمط المجتمع و لا تدور في تلك الحلقة المتبادلة بل نجدها تستمر بطرح الأسئلة ، و تخوض صراع المعرفة و التجربة عبر الكتابة تارة و لقاء رجل التاريخ تارة أخرى و عبر السفر إلى أزمنة النشأة الأولى لمملكة النساء ، كما أنها – شخصية الفتى الكاتب – تناظر شخصيات عدة ، حاولت التماس مع الذوات الأخرى لخوض مسّ الحقيقة ، عين الحقيقة بتضاريسها و خفاياها .. الحقيقة الغائبة .
-جسر اللغة :
لا يقتصر الحديث عن لغة النص على جمالياته و تجانسه مع مهاد الرواية الزماني و المكاني ، بل يمتد إلى اكتشاف كونها محركا فاعلا يدفع بالعمل إلى غاياته .
فاللغة في الرواية معيارية ، كأنما كتبت لها ، خاضعة أيضا لسلطة المملكة ، حيث تتضافر ( سردا - وصفا - حوارا ) لتشكل هوية المكان و ارهاصات سكانه . مثلا لا نجد لفظة ( الله ) في العمل مرة واحدة ، مع علمنا أن هذه اللفظة قد تحيل لعدة أفكار ، و قد يستخدمها النص سهوا بغرض الاستحسان أو الرجاء أو الوعيد ؛ لكن ذكاء الناص غيبها تماما ليُظهر خروج تلك المملكة ( عقائديا و معرفيا و ثقافة ) من كل التصورات المألوفة الممكنة و لتكون تلك المملكة عالما يقوم على السرد و يؤول إليه .
كما أن اللغة وظفت توظيفا معطاء في أماكنها في الرواية ، فنجد لغة السرد في المدينة و البيت و أروقة الجامعة تجانس منطلقاتها ، و تختلف عن لغة قرية العجوز بعجائبيتها ، و عن لغة سُعاة البريد و شيخ التاريخ .
حول رواية الاستدارة الأخيرة لـ أحمد الزمام
" لقد أصبت بإرهاق شديد و يخيّل لي أني أركض على أسطوانة التاريخ التي لا تنفك تدور بلا توقف مقاوما السقوط إلى نهاية الحياة " ... الرواية
قدم الأدب العديد من التجارب الإنسانية ، و رفد الكثير من الأفكار ، ليحاكي التحولات و يستجيب للمتغيرات المتسارعة في الواقع ، و تأتي الرواية في طليعة هذه الأعمال التي تمس المتلقي بنحو شديد التأثير ، كلما صدقت مبانيها ، و أُحكم عمرانها .
رواية الاستدارة الأخيرة للكاتب الكويتي أحمد الزمام و الصادرة عن دار ميلاد -رشم – جدل ،رواية تحمل لمتلقيها تجرية إنسانية خالصة خارجة من اعتياد المألوف ، حاملة إنسانها –إنسان العمل – إلى مركز دائرة الصراع الذي يمتد صانعا ارتدادات متزايدة كلما تقدمت الأحداث .
إن هذه الرواية البليغة التأثير تحاكي الواقع بنحو مائز من التجريب ، بحيث أنها لا تدلقه بنمطيته ، بل تقدمه – مُرمزا - عبر مستويين ( متناظرين ) ، و دوائر عديدة من الحبكات . كي يكون ذلك التناظر مفتاحا لفهم الرواية – و بؤرة لدلالات المعنى ، و كي تقول الرواية لقارئها : الحكم الأخير لك ، لتقرر -بعد تلقي العمل – أن تدين أي جهة أو تقبل بأي جهة ، أو تقف مع إنسان الرواية في مركز الدائرة تماما- في المنتصف بلا تطرف - مقيدا بالأسئلة .
-التناظر و الصراع :
تقوم الرواية على صراع دائر بين سلطتين :الذكر و الأنثى ، و قبل أن نسم هذا الصراع بالطبيعي ، سنجد أن الرواية ترسمه بنحو مفجع ، قائم على : تهميش و امتهان و استضعاف كل طرف لآخر ، مما يجعل المهاد المكاني متشظ بسلطة طرف و مقموع بقهر طرف آخر في نطاق تبادلي بين السلطتين . وفي تلك الدائرة التي تبدو لا نهاية لها ، تتحرك الأحداث في مملكة – فانتازية – لها قوانينها و تفاصيلها و دستورها و طبقات شعبها ، و كل تلك العجائبية التي تحيل المتلقي لعمل ملحمي فريد من نوعه يُبدي صبرَ الكاتب و عنايته بالنص و تفاصيله .
في تلك الملحمة ، سيظهر جليا أن مملكة الرجل الخارجة من عمق سحيق من التاريخ ، ستناظر تماما مملكة الأنثى في البطش ، و ما بين المستويين المتناظرين العديد من الحبكات المتداخلة التي تحرك النص إلى وجهة يسعى لتوثيقها و إلى رسالة مبطنة لم تأت على ألسنة الشخوص و لم تنكشف في الأحداث غير أنها تتجلى بقوة في المصب الأخير التي تصب فيه جميع المآلات ، لتستمر الدائرة مرة أخرى . و هذا ما يمكن أن نسميه بالوجهة التي يتجه النص إليها ليخاطب المتلقي _إنسان التاريخ _ و يرشده إلى ضرورة فهم الحياة على كونها تكاملا و ليس صراعا .
إن التجارب الدموية التي قامت عليها مملكة الرجل ، لم تردع مبتدأ مملكة الأنثى من سلوك ذات الطريق ، مما صب المملكتين في المؤدى ذاته ، و استمر بشطر المجتمع إلى شطرين : مستبد و مستضعف ، و في قلب تلك الدائرة ظهرت شخصية النص : الفتى الكاتب ، المقدم بلا اسم ، الضاج بأسئلته .
و عادة ما تكون الشخصية هي ذاتا تتماهى مع الذات الجمعية في مجتمعها غير أن بطلنا ظهر في النص مختلفا ، لم يستطع أن يتماهى مع ضعف الرجل – في تلك الحقبة – و لم يقدر أن يستجيب لسلطة المرأة الباطشة بدءً من زوجة أبيه القاسية التي لقبها بالضفدعة إلى الملكة المجهولة ، و لم يستعر الكره الطافح في قلوب الرجال ضد المرأة فمال إلى نهج عمته التي لم تزل تجد أن الرجل كائن محترم يستحق الاحتفاء به ، و خفق قلبه للورا المتزنة .
هذه الشخصية التي تعاني أزمة الهوية لا تتكرر نمط المجتمع و لا تدور في تلك الحلقة المتبادلة بل نجدها تستمر بطرح الأسئلة ، و تخوض صراع المعرفة و التجربة عبر الكتابة تارة و لقاء رجل التاريخ تارة أخرى و عبر السفر إلى أزمنة النشأة الأولى لمملكة النساء ، كما أنها – شخصية الفتى الكاتب – تناظر شخصيات عدة ، حاولت التماس مع الذوات الأخرى لخوض مسّ الحقيقة ، عين الحقيقة بتضاريسها و خفاياها .. الحقيقة الغائبة .
-جسر اللغة :
لا يقتصر الحديث عن لغة النص على جمالياته و تجانسه مع مهاد الرواية الزماني و المكاني ، بل يمتد إلى اكتشاف كونها محركا فاعلا يدفع بالعمل إلى غاياته .
فاللغة في الرواية معيارية ، كأنما كتبت لها ، خاضعة أيضا لسلطة المملكة ، حيث تتضافر ( سردا - وصفا - حوارا ) لتشكل هوية المكان و ارهاصات سكانه . مثلا لا نجد لفظة ( الله ) في العمل مرة واحدة ، مع علمنا أن هذه اللفظة قد تحيل لعدة أفكار ، و قد يستخدمها النص سهوا بغرض الاستحسان أو الرجاء أو الوعيد ؛ لكن ذكاء الناص غيبها تماما ليُظهر خروج تلك المملكة ( عقائديا و معرفيا و ثقافة ) من كل التصورات المألوفة الممكنة و لتكون تلك المملكة عالما يقوم على السرد و يؤول إليه .
كما أن اللغة وظفت توظيفا معطاء في أماكنها في الرواية ، فنجد لغة السرد في المدينة و البيت و أروقة الجامعة تجانس منطلقاتها ، و تختلف عن لغة قرية العجوز بعجائبيتها ، و عن لغة سُعاة البريد و شيخ التاريخ .
هذه الرواية و كما قال البطل تشبه الركض في ممرات التاريخ بل تشبه الركض على اسطوانة تستمر بالدحرجة و التقلب فهل يا ترى يواكب إنسان اليوم هذا الركض المستحيل ؟ أم يهوي ؟ أم يملك إرادته البادئة من ذاته الواعية ليوقف ذلك التقلب و يفهم أن التوازن مفتاح الاستمرار .
ترسخ هذه السنة عددا من الكتب في ذخيرة الذاكرة ، أود مشاركتها مع القراء الأحبة مُلاك الصفحة و المكان ، ربما يجدون بها الأثر الجميل الذي وجدته بها .
١/ في مجال الرواية - أحبّ الفنون إلى قلبي :
-الجزآن الأوليان من ثلاثية أسفار مدينة الطين للكاتب الكويتي سعود السنعوسي . تقدم هذه الثلاثية جزءا من تاريخ الوطن عبر دمج عناصر ثلاث ( الواقع - الأسطورة - و التخييل ) ، و سرد الكاتب الذي يُشبه صورا ثلاثية الأبعاد من وصف و حوار و حركة مكّن متلقيه من عيش الرواية بتفاصيلها شاغلا بها حواسه و موقدا بها وعيه ، اليوم بعد أن اقتنيت الجزء الثالث أعاود قراءة الجزئين السابقين للبداية في اكتشاف سفر العفوز .
-أفكر كيف كتبت الروائية بثينة العيسى عملها الأخير دار خولة و أقر أنه من أفضل ما قرأت هذا العام ، و بعيدا عن الرؤى النقدية أحب مساحة الإفضاء الذوقية هذه حول عمل أقره الآن كنبوءة - للأسف - و أعبر فيه ضيق هموم الأسرة إلى الوقائع المحلية و من ثم العالمية الكبرى ، تدور الرواية حول خولة الأم و صراعها مع أبنائها الثلاث ، و بلغة بثينة العيسى الدلالية و المعيارية تفتح لنا ليلةٌ واحدة أحداث عمر كامل .
-رواية الاستدارة الأخيرة لـ الكاتب الكويتي أحمد الزمام :
أعتبر هذه الرواية تجربة مختلفة ، على صعيد البناء الرمزي و التأثيث الغرائبي للعمل ، و رسم الظروف الاستثنائية للمكان و الزمان و الشخوص على أن الرواية تعالج قضية الصراع النوعي الذي يفتحها على تنوع صور الصراع : الطبقي و العرقي و المذهبي و غيرها . فالرواية تقدم الواقع اللصيق بك و بإنسانيتك عبر طبقات مكثفة من الترحال ما بين اللذة و الألم ، و المُفضي إلى اكتشاف الذات : أليس من الجميل مزج المألوف بالغرائبي ؟
-رواية السيدة التي سقطت بالحفرة لـ الروائية إيناس حليم :
تقوم هذه الرواية على حادثة محفوظة في ذاكرة المكان ، تحولت مع الأيام إلى لغز مفتوح على عدة تفاسير و تأويلات ، و شخصية النص الأساسية تُلاحق تلك التفاسير آخذة متلقيها في متاهات الأحداث و إفادات الشهود و مقحمة إياه في البيوت و ثقافاتها و أسرارها ، هذه الرواية تدفع القارئ للركض في دروبها بلا ملل ، فهي مكتوبة بدهشة و إمتاع .
-رواية ق قاتل س سعيد للكاتب الكويتي عبد الله البصيص ؛ تحمل هذه الرواية ذاكرة جيلي ، الأمر الذي يوثق ارتباطي بها كلما تقادمت القراءة ، و رغم أن لائحتي هذه تعتمد على الانفعال الذوقي و الاستحسان الشخصي إلا أني لا أقدر أن أغفل براعة الكاتب في رسم الشخصيات ، و اشتغاله على جعلها مقنعة جد التجسد .
-رواية المصير الأرمد لـ باء الطبطبائي ، هذه الرواية التاريخية تبشر بقلم يستطيع النبش في التراث ليقدم خطابه . الجميل في الرواية أنها تخوض في أخيلة الشخصية النقيضة ؛ الأمر الذي يؤكد اختلافها عن نسخ الروايات العاشورائية المعتادة ، مع هذا لا أعتبرها رواية منغلقة مذهبيا فالناصة لا تبالغ بالمدح أو الذم بل تتخذ اللغة الموضوعية .
-أصوات المساء لنتاليا جينزبورج : تبرهن هذه الرواية على ألا مسطرة نقدية حاسمة و حازمة في كتابة الرواية ، و على أنه من الصعب تقديم المعايير على الدهشة .
هنالك الكثير من الروايات التي التزمت بقوانين الكتابة و بحدود المعايير غير أنها ما استطاعت اجتذاب قارئها و الخلود في ذاكرته ، و قد نجد أن الرواية الهاربة و القافزة على الحدود - و إن كان القفز هنا ليس بمعنى توليد شبكات من الإبداع بقدر نهج البساطة و السيولة الهادئة - تستطيع الإعلان عن صوتها و إرغام متلقيها على الالتفات .
-في رواية صخرة طانيوس لأمين معلوف أحببت اللغة و اكتشاف معارف تاريخية .
١/ في مجال الرواية - أحبّ الفنون إلى قلبي :
-الجزآن الأوليان من ثلاثية أسفار مدينة الطين للكاتب الكويتي سعود السنعوسي . تقدم هذه الثلاثية جزءا من تاريخ الوطن عبر دمج عناصر ثلاث ( الواقع - الأسطورة - و التخييل ) ، و سرد الكاتب الذي يُشبه صورا ثلاثية الأبعاد من وصف و حوار و حركة مكّن متلقيه من عيش الرواية بتفاصيلها شاغلا بها حواسه و موقدا بها وعيه ، اليوم بعد أن اقتنيت الجزء الثالث أعاود قراءة الجزئين السابقين للبداية في اكتشاف سفر العفوز .
-أفكر كيف كتبت الروائية بثينة العيسى عملها الأخير دار خولة و أقر أنه من أفضل ما قرأت هذا العام ، و بعيدا عن الرؤى النقدية أحب مساحة الإفضاء الذوقية هذه حول عمل أقره الآن كنبوءة - للأسف - و أعبر فيه ضيق هموم الأسرة إلى الوقائع المحلية و من ثم العالمية الكبرى ، تدور الرواية حول خولة الأم و صراعها مع أبنائها الثلاث ، و بلغة بثينة العيسى الدلالية و المعيارية تفتح لنا ليلةٌ واحدة أحداث عمر كامل .
-رواية الاستدارة الأخيرة لـ الكاتب الكويتي أحمد الزمام :
أعتبر هذه الرواية تجربة مختلفة ، على صعيد البناء الرمزي و التأثيث الغرائبي للعمل ، و رسم الظروف الاستثنائية للمكان و الزمان و الشخوص على أن الرواية تعالج قضية الصراع النوعي الذي يفتحها على تنوع صور الصراع : الطبقي و العرقي و المذهبي و غيرها . فالرواية تقدم الواقع اللصيق بك و بإنسانيتك عبر طبقات مكثفة من الترحال ما بين اللذة و الألم ، و المُفضي إلى اكتشاف الذات : أليس من الجميل مزج المألوف بالغرائبي ؟
-رواية السيدة التي سقطت بالحفرة لـ الروائية إيناس حليم :
تقوم هذه الرواية على حادثة محفوظة في ذاكرة المكان ، تحولت مع الأيام إلى لغز مفتوح على عدة تفاسير و تأويلات ، و شخصية النص الأساسية تُلاحق تلك التفاسير آخذة متلقيها في متاهات الأحداث و إفادات الشهود و مقحمة إياه في البيوت و ثقافاتها و أسرارها ، هذه الرواية تدفع القارئ للركض في دروبها بلا ملل ، فهي مكتوبة بدهشة و إمتاع .
-رواية ق قاتل س سعيد للكاتب الكويتي عبد الله البصيص ؛ تحمل هذه الرواية ذاكرة جيلي ، الأمر الذي يوثق ارتباطي بها كلما تقادمت القراءة ، و رغم أن لائحتي هذه تعتمد على الانفعال الذوقي و الاستحسان الشخصي إلا أني لا أقدر أن أغفل براعة الكاتب في رسم الشخصيات ، و اشتغاله على جعلها مقنعة جد التجسد .
-رواية المصير الأرمد لـ باء الطبطبائي ، هذه الرواية التاريخية تبشر بقلم يستطيع النبش في التراث ليقدم خطابه . الجميل في الرواية أنها تخوض في أخيلة الشخصية النقيضة ؛ الأمر الذي يؤكد اختلافها عن نسخ الروايات العاشورائية المعتادة ، مع هذا لا أعتبرها رواية منغلقة مذهبيا فالناصة لا تبالغ بالمدح أو الذم بل تتخذ اللغة الموضوعية .
-أصوات المساء لنتاليا جينزبورج : تبرهن هذه الرواية على ألا مسطرة نقدية حاسمة و حازمة في كتابة الرواية ، و على أنه من الصعب تقديم المعايير على الدهشة .
هنالك الكثير من الروايات التي التزمت بقوانين الكتابة و بحدود المعايير غير أنها ما استطاعت اجتذاب قارئها و الخلود في ذاكرته ، و قد نجد أن الرواية الهاربة و القافزة على الحدود - و إن كان القفز هنا ليس بمعنى توليد شبكات من الإبداع بقدر نهج البساطة و السيولة الهادئة - تستطيع الإعلان عن صوتها و إرغام متلقيها على الالتفات .
-في رواية صخرة طانيوس لأمين معلوف أحببت اللغة و اكتشاف معارف تاريخية .
مخيال معيوف
حيث تنمو الرواية بضمور الكائن السردي
من بيت شعر في صحراء تحتضن سماؤها المطر إلى البحر؛ تمتد رحلة رواية "مخيال معيوف " للكاتب الكويتي " عبد الهادي الجُميل " و الصادرة حديثا عن دار كلمات في ما يربو عن 440 صفحة من القطع المتوسط ، يشاغل فيها كاتبها جغرافية المكان ليصنع من خلالها الحدث المستهل بولادة طفل بإثني عشرة إصبع في رجليه مرورا بمنعطفات حياته و ختاما إلى البحر .
إن اشتغال الكاتب على تلك الجغرافية بتنوعها أفضى إلى تلوّن طبقات النص مما جعل الرواية أشبه برحلة تتنامى أشياؤها و تمتد أحداثها مع رحلة شخصية النص ( معيوف ) التي استأثرت بوعيه مُحيلة تفاعلات الشخصيات الأخرى إلى رسائل مضمرة على المتلقي أن يتحرى عنها في تلك الطبقات .
ومعيوف ؛ هذه الشخصية التي ترسخت بتركيز في النص بدء من عتبته إلى طبقاته و أخيرا إلى قفلته شخصية قُدمت بتعاكس مع النص نفسه ، ففي الوقت الذي تنمو فيه الأحداث و تتصاعد نجد أن الشخصية تضمر ، و نعني بالضمور هنا انفصال الشخصية عن هويتها ، و انفكاكها عن ذاتها القديمة التي تألفها و انشغالها الحثيث برغبة الخلاص من الراهن للعودة للماضي الأليف ، فكأن معيوفا -رغم ذكائه المتقد – و قدرته على تعليم ذاته بذاته من خلال كتب الطلبة المستغنى عنها في أعقاب السنوات الدراسية ، هو الذي لم يرتد مدرسة نظامية إنما تعلم بجهده الذاتي القراءة أولا و من ثم علم ذاته مضامين المناهج الدراسية ؛كأنه رغم كل ذاك قد سُجن في وعيه الطفولي الابتدائي حين عاش في تل السعادة مع طبيبة الإرسالية الأمريكية " إيفيلين " ، و حين عاد إلى نقطة البداية – بعمر فاق الخامسة عشر- توقع على ذكائه أن يجد الأمور كما كانت عليه و كأن الزمن توقف هناك في تلك النقطة الجغرافية : بحر الوطيةفي الكويت عشرينيات القرن الماضي.
يقول خلف والد معيوف لابن أخيه :
-مثل ما تشوف يزيد عمره و يزيد بلاه.
-يا عمي أنت تعامله مثل الخادم أو الراعي .
-ما منه فايدة . كل همه يرجع لنصارى الأمريكاني ،لايغشك بسكوته .
*الرواية صفحة 302
لقد انكفأ معيوف على ذاته متخذا الذاكرة ذخيرة فريدة للمضي قدما في الحياة ، منفصلا بوعيه عن المحيط ، رافضا الانتماء للصحراء ، نافرا عن الأهل و العشيرة ، متطلعا إلى العودة إلى طفولته المبكرة و تحديدا لعمر الرابعة ، حيث بدت تلك السنوات الأربع هي محور حياته المشكل لهويته الصادقة الوحيدة و لم تستطع السنوات المتقادمة التي فاقت العشر أن تحّيد ذلك الانتماء أو أن تبتني صلات مع الواقع .
و بصورة أشمل ، نجد أن هذا التعاكس أو لنقل التضاد يحضر في موضع آخر بالرواية ، حين تعتري الحيرة المتلقي في تحديد جهة تعاطفه مع شخوص النص : فهل يتعاطف من خلف والد معيوف الذي وجد ابنه المخطوف بعد أربع سنوات فاستعاده من الإرسالية إلى صحرائه ؟ خلف المتعصب لمنطق الصحراء الذي خسر المواطنة لعدم مرونته و عدم استجابته لنداءات التجنيس في تلك الحقبة مؤطرا عالمه بالإبل و الماشية و فضاء البادية .
أم يتعاطف مع الطبيبة إيفيلين الحاضنة معيوف من منظور الإنقاذ ، حيث استقبلته في مستشفى الإرسالية رضيعا على وشك الموت ، بإثني عشر إصبعا في القدم ، يظهر الكي في أكثر من موضع في رأسه ، يزهد به أهله و يصفونه بالشؤم . فتصارع إيفيلين حينها ذاتها بين واجب الالتزام بالمهنة و الأعراف العامة و بين الضمير و المسؤولية الإنسانية .
أم يتعاطف المتلقي مع معيوف ذاته ، الذي لم يجد لذة العيش إلا صحبة إيفيلين ، و صارع اغترابه في رحلته العمرية المتنقلة من بئر إلى بئر و من مربع إلى مربع في الصحراء الممتدة من الكويت إلى بادية العراق.
إن توصيف الغربة من منظور الطفل معيوف بدا في الرواية شديد التأثير ، و هذا من براعة الكاتب الذي وثق الرحلة بكتابة تشبه عرضا رباعي الأبعاد ، حيث تتفاعل تضاريس البيئة و ألوانها و أصواتها و عادات أناسها و أحاديثهم الجوانية و البرانية و طباعهم ، و تتجانس كل تلك العناصر لتحيل المتلقي إلى البادية الخاشعة عبر منظور معيوف ، فتفصح الحياة عن نفسها تارة و تطالب المتلقي بالتنقيب عن المُضمر تارة أخرى .
حيث تنمو الرواية بضمور الكائن السردي
من بيت شعر في صحراء تحتضن سماؤها المطر إلى البحر؛ تمتد رحلة رواية "مخيال معيوف " للكاتب الكويتي " عبد الهادي الجُميل " و الصادرة حديثا عن دار كلمات في ما يربو عن 440 صفحة من القطع المتوسط ، يشاغل فيها كاتبها جغرافية المكان ليصنع من خلالها الحدث المستهل بولادة طفل بإثني عشرة إصبع في رجليه مرورا بمنعطفات حياته و ختاما إلى البحر .
إن اشتغال الكاتب على تلك الجغرافية بتنوعها أفضى إلى تلوّن طبقات النص مما جعل الرواية أشبه برحلة تتنامى أشياؤها و تمتد أحداثها مع رحلة شخصية النص ( معيوف ) التي استأثرت بوعيه مُحيلة تفاعلات الشخصيات الأخرى إلى رسائل مضمرة على المتلقي أن يتحرى عنها في تلك الطبقات .
ومعيوف ؛ هذه الشخصية التي ترسخت بتركيز في النص بدء من عتبته إلى طبقاته و أخيرا إلى قفلته شخصية قُدمت بتعاكس مع النص نفسه ، ففي الوقت الذي تنمو فيه الأحداث و تتصاعد نجد أن الشخصية تضمر ، و نعني بالضمور هنا انفصال الشخصية عن هويتها ، و انفكاكها عن ذاتها القديمة التي تألفها و انشغالها الحثيث برغبة الخلاص من الراهن للعودة للماضي الأليف ، فكأن معيوفا -رغم ذكائه المتقد – و قدرته على تعليم ذاته بذاته من خلال كتب الطلبة المستغنى عنها في أعقاب السنوات الدراسية ، هو الذي لم يرتد مدرسة نظامية إنما تعلم بجهده الذاتي القراءة أولا و من ثم علم ذاته مضامين المناهج الدراسية ؛كأنه رغم كل ذاك قد سُجن في وعيه الطفولي الابتدائي حين عاش في تل السعادة مع طبيبة الإرسالية الأمريكية " إيفيلين " ، و حين عاد إلى نقطة البداية – بعمر فاق الخامسة عشر- توقع على ذكائه أن يجد الأمور كما كانت عليه و كأن الزمن توقف هناك في تلك النقطة الجغرافية : بحر الوطيةفي الكويت عشرينيات القرن الماضي.
يقول خلف والد معيوف لابن أخيه :
-مثل ما تشوف يزيد عمره و يزيد بلاه.
-يا عمي أنت تعامله مثل الخادم أو الراعي .
-ما منه فايدة . كل همه يرجع لنصارى الأمريكاني ،لايغشك بسكوته .
*الرواية صفحة 302
لقد انكفأ معيوف على ذاته متخذا الذاكرة ذخيرة فريدة للمضي قدما في الحياة ، منفصلا بوعيه عن المحيط ، رافضا الانتماء للصحراء ، نافرا عن الأهل و العشيرة ، متطلعا إلى العودة إلى طفولته المبكرة و تحديدا لعمر الرابعة ، حيث بدت تلك السنوات الأربع هي محور حياته المشكل لهويته الصادقة الوحيدة و لم تستطع السنوات المتقادمة التي فاقت العشر أن تحّيد ذلك الانتماء أو أن تبتني صلات مع الواقع .
و بصورة أشمل ، نجد أن هذا التعاكس أو لنقل التضاد يحضر في موضع آخر بالرواية ، حين تعتري الحيرة المتلقي في تحديد جهة تعاطفه مع شخوص النص : فهل يتعاطف من خلف والد معيوف الذي وجد ابنه المخطوف بعد أربع سنوات فاستعاده من الإرسالية إلى صحرائه ؟ خلف المتعصب لمنطق الصحراء الذي خسر المواطنة لعدم مرونته و عدم استجابته لنداءات التجنيس في تلك الحقبة مؤطرا عالمه بالإبل و الماشية و فضاء البادية .
أم يتعاطف مع الطبيبة إيفيلين الحاضنة معيوف من منظور الإنقاذ ، حيث استقبلته في مستشفى الإرسالية رضيعا على وشك الموت ، بإثني عشر إصبعا في القدم ، يظهر الكي في أكثر من موضع في رأسه ، يزهد به أهله و يصفونه بالشؤم . فتصارع إيفيلين حينها ذاتها بين واجب الالتزام بالمهنة و الأعراف العامة و بين الضمير و المسؤولية الإنسانية .
أم يتعاطف المتلقي مع معيوف ذاته ، الذي لم يجد لذة العيش إلا صحبة إيفيلين ، و صارع اغترابه في رحلته العمرية المتنقلة من بئر إلى بئر و من مربع إلى مربع في الصحراء الممتدة من الكويت إلى بادية العراق.
إن توصيف الغربة من منظور الطفل معيوف بدا في الرواية شديد التأثير ، و هذا من براعة الكاتب الذي وثق الرحلة بكتابة تشبه عرضا رباعي الأبعاد ، حيث تتفاعل تضاريس البيئة و ألوانها و أصواتها و عادات أناسها و أحاديثهم الجوانية و البرانية و طباعهم ، و تتجانس كل تلك العناصر لتحيل المتلقي إلى البادية الخاشعة عبر منظور معيوف ، فتفصح الحياة عن نفسها تارة و تطالب المتلقي بالتنقيب عن المُضمر تارة أخرى .
رسائل متأخرة : وجوه أخرى للأبوة و البنوة
عن دار يسطرون صدر كتاب " رسائل متأخرة " للكاتبة و الشاعرة و الناقدة و التشكيلية طاهرة آل سيف ، حيث تضم المجموعة ٣٦ نصا ما بين القصة والقصة القصيرة .
تتميز المجموعات القصصية بسعتها لضم مواضيع عدة و خطابات متنوعة ، فالقصة القصيرة فن قائم على التقاط فكرة ثم تكريسها و تقديمها مكثفة بحساسية عالية لتنفذ إلى نطاق تأثير المتلقي ؛ و لطالما شُبهت القصة القصيرة بفكرة تتبعها دهشة ، و هنا يتجلى الدور الأهم الذي تلعبه أدوات الناص ليحيل العادي إلى لافت ، و الراهن إلى اللامتوقع ، ثم يسحب اعترافا من متلقيه بصدق التأثير .
في مجموعتنا نجد تعدد الصور الحياتية و نلمس التنوع ، فالقصص تقوم على عوالمها المتباينة ما بين ( البيت - المرسم - المعرض الفني - الشارع - الملهى - و مشاعر العبادة ) و من خلال كل عام تقدم الناصة شخوصها - الرئيسة عالية الصوت و الهامشية فاعلة التأثير - بتجانس متماسك يوثق عرى النص و يحمله إلى نطاقه المطلوب .
مع ذلك ؛ نجد أن نسبة غالبة من النصوص تناقش قضايا الأبوة و البنوة متمثلة بوجوه أخرى من العلاقة التي من المفترض أن تتسم بالصحة ، غير أن اشتغال الناصة و التقاطاتها اللماحة للقصص المتوارية في بطانة الراهن أمكنها من عرض تلك الوجوه المختلفة الشائكة .
فحين نواجه نص ( على الجسر .. طيف يترنح ) نعايش وجعا قلما تطرق إليه السارد العربي و هو مؤدى علاقة الوالدية السامية من جهة الابن ، هذه العلاقة السامة المرهقة تخرج من نمطية العقوق المكرسة في السرد و تخرج من نمطية قسوة الوالدية لتُفضي مآزق حياتية متفردة .
تقول الناصة في صفحة ١٧
" اصطدم رأسه بزجاج النافذة ، انخلع قلبي .. و امتدت يدي تحاول أن تطاله من المقعد الخلفي .. لو أدركته .. لو أعدته لرحمي "
في مقابل هذا النص ، نجد حضورا للأم القاسية ، أو غير العابئة تحديدا كما في نص الكتاب الأخير ، أو الأم الثاكلة كما في نص الحائط أو البنت البارة المتفانية كما في يوم آخر ، و العديد من صور العلاقة المتمايزة بين الأبوة و البنوة .
هذا التكريس لم يمنع المجموعة من الاتساع لتناقش مأزق إنسان الراهن عبر التقاطات ذكية تقول من خلالها الناصة مالديها من هواجس و قلق و أسئلة عبر أدواتها السردية الخاصة .
و حين نقول خاصة ، فذلك لكون الكاتبة تشتغل في نطاق تعمل من خلاله على توطين هوية خاصة بها ، فرغم أن المجموعة هي باكورة إصدارتها ، إلا أن المتلقي سيدرك بعد التجول فيها أن ثمة تركيب يؤول إلى الكاتبة و يعزز آلياتها في تشكيل النص ، من اللغة المرفدة بالعبارة المكثفة ، المتوازنة بين الاقتصاد و البلاغة في سبيل تحقيق الدلالات المطلوبة ، إلى حجم النص المُوجه بلا إثقال الرتوش .
عن دار يسطرون صدر كتاب " رسائل متأخرة " للكاتبة و الشاعرة و الناقدة و التشكيلية طاهرة آل سيف ، حيث تضم المجموعة ٣٦ نصا ما بين القصة والقصة القصيرة .
تتميز المجموعات القصصية بسعتها لضم مواضيع عدة و خطابات متنوعة ، فالقصة القصيرة فن قائم على التقاط فكرة ثم تكريسها و تقديمها مكثفة بحساسية عالية لتنفذ إلى نطاق تأثير المتلقي ؛ و لطالما شُبهت القصة القصيرة بفكرة تتبعها دهشة ، و هنا يتجلى الدور الأهم الذي تلعبه أدوات الناص ليحيل العادي إلى لافت ، و الراهن إلى اللامتوقع ، ثم يسحب اعترافا من متلقيه بصدق التأثير .
في مجموعتنا نجد تعدد الصور الحياتية و نلمس التنوع ، فالقصص تقوم على عوالمها المتباينة ما بين ( البيت - المرسم - المعرض الفني - الشارع - الملهى - و مشاعر العبادة ) و من خلال كل عام تقدم الناصة شخوصها - الرئيسة عالية الصوت و الهامشية فاعلة التأثير - بتجانس متماسك يوثق عرى النص و يحمله إلى نطاقه المطلوب .
مع ذلك ؛ نجد أن نسبة غالبة من النصوص تناقش قضايا الأبوة و البنوة متمثلة بوجوه أخرى من العلاقة التي من المفترض أن تتسم بالصحة ، غير أن اشتغال الناصة و التقاطاتها اللماحة للقصص المتوارية في بطانة الراهن أمكنها من عرض تلك الوجوه المختلفة الشائكة .
فحين نواجه نص ( على الجسر .. طيف يترنح ) نعايش وجعا قلما تطرق إليه السارد العربي و هو مؤدى علاقة الوالدية السامية من جهة الابن ، هذه العلاقة السامة المرهقة تخرج من نمطية العقوق المكرسة في السرد و تخرج من نمطية قسوة الوالدية لتُفضي مآزق حياتية متفردة .
تقول الناصة في صفحة ١٧
" اصطدم رأسه بزجاج النافذة ، انخلع قلبي .. و امتدت يدي تحاول أن تطاله من المقعد الخلفي .. لو أدركته .. لو أعدته لرحمي "
في مقابل هذا النص ، نجد حضورا للأم القاسية ، أو غير العابئة تحديدا كما في نص الكتاب الأخير ، أو الأم الثاكلة كما في نص الحائط أو البنت البارة المتفانية كما في يوم آخر ، و العديد من صور العلاقة المتمايزة بين الأبوة و البنوة .
هذا التكريس لم يمنع المجموعة من الاتساع لتناقش مأزق إنسان الراهن عبر التقاطات ذكية تقول من خلالها الناصة مالديها من هواجس و قلق و أسئلة عبر أدواتها السردية الخاصة .
و حين نقول خاصة ، فذلك لكون الكاتبة تشتغل في نطاق تعمل من خلاله على توطين هوية خاصة بها ، فرغم أن المجموعة هي باكورة إصدارتها ، إلا أن المتلقي سيدرك بعد التجول فيها أن ثمة تركيب يؤول إلى الكاتبة و يعزز آلياتها في تشكيل النص ، من اللغة المرفدة بالعبارة المكثفة ، المتوازنة بين الاقتصاد و البلاغة في سبيل تحقيق الدلالات المطلوبة ، إلى حجم النص المُوجه بلا إثقال الرتوش .
HTML Embed Code: