TG Telegram Group Link
Channel: قراءات
Back to Bottom
المرايا و معاركات البقاء
قراءة في : أفعى تأكل ذيلها لـ حسين الضو
 
" إن ما تخلفه الأم لا يمكن محوه ، هي مثل البذرة التي ينبت منها أفراد البيت كله ، إن كانت خيرا فخير و إن كانت شرا فشر ، و للتخلص من تلك البذرة تموت الشجرة بالكامل " الرواية ص 93
 
تقدم رواية أفعى تأكل ذيلها للكاتب و الناقد حسين الضو و الصادرة عن دار أثر للنشر  شبكة من التساؤلات التي تتغذى على تحفيز فكر القارئ ، و خلق عالم متضاد ، هلامي أحيانا و ثابت أخرى متخلق من ترشحات ( الوعي و اللاوعي ) .
الرواية على قصرها تفتح نوافذ لأسراب عديدة من الأفكار ، و التي تبدو للوهلة الأولى مترفة مترفعة إلا أن المتلقي من خلال الانغماس بالرواية يكتشف أنها الأكثر تماسا مع هم الإنسان و متاعبه الأساسية ، و رغم أن التقديم الذي استهلت به الرواية يعطي القليل من ملامحها  أو لنقل ملامح من أجوائها  إلا أن متعة الاكتشاف ، و السير وسط فخاخ من الأحجيات الذكية يُبقي المتلقي رهن الدهشة .
تقوم الرواية على فكرة أساسية و هي فكرة الخلود ، و ذلك الدوران المستمر بين نقطة البداية و النهاية و الفناء و البقاء ، و تقدم من خلال الفكرة أيضا فكرتين فرعيتين :
أ / الوعي الذاتي .
ب/ المنشأ الأساسي .
و رغم عمق المعنى نجد البناء السردي سال بليونة دون تكلف بل متماهيا مع قدرة القارئ و مشبعا بلذة الحبكة و متعة الاكتشاف
.

_ البذرة الأولى :

تبدأ الرواية بموت الأم ، الواقعة المغذية لتطور الأحداث ، و تُسرد هذه الواقعة من خلال خمسة أصوات ، لكل منها رؤى خاصة حول الشخصية و موتها و ترشحاته ، تعرض هذه الرؤى بحيادية ، لكن مُعززة ببعض الرموز ، و هذا من فنيات العمل ، إذا كلما سارت عجلة السرد للإمام دفعت المتلقي للعودة إلى الرؤى السابقة لتعزيز فكرة ما أو استبعادها .
موت الأم هو المشكلة الأساسية و إن بدا حلا ، ففقدها يشكّل يدا جبارة تنبش في أعماق كل شخصيات العمل و تخرج مآزقها و متاعبها لتعيدها إلى رف أمامي في الواجهة تماما .
نحن في هذه المواجهة نستوثق من مبدأ قديم ، بديهي و متفق عليه ، حول أثر الأم في الأسرة ، و في تركيبة أفرادها ، و مدى أهمية المنشأ في التشكيل الإنساني ، و قد ضمّن الكاتب هذه الفكرة بالرواية عبر الرسم السردي ، و ركزها من خلال الاقتباس الذي بدأت به القراءة و الوارد صفحة ( ٩٣ ) .
الأم هي التي أثرت على ( هو ) الشخصية المتحدثة الأولى في الرواية ، و هي التي أفرزت الكآبة في حياة الأب ، و حتى مريم التي بدت منيعة في مقتبل الأحداث ، تمكن الغضب أو جور الوعي بعد الإبصار من تحرير مشاعرها السلبية المكبوتة كطفلة تنعتها الأم بـ البومة العمياء من أن تطفح على السطح فتشوهها .
فمن تكون هذه الأم ؟
هل يحاول الناص أن ينقد تلك الشخصية النمطية للعجوز التي يصب حقد قلبها عبر لسانها بين تعبث يدها بالمسبحة ، و يعري ذلك التدين السطحي المفرغ من مفهوم الأخلاق .
أم أن الأم هنا هي الأفعى الغوية التي شطرها ( هو ) من بين أغصان شجرة الجهنمية ؟ فهي النفس التي تحرك الكائن وفق جوعها و تطلباتها .
أم هي المرايا التي نبصر من خلالها انعكاس ظلمانيتنا ؟
⁃ التجريب و الشخصيات :

تتحرك الرواية من خلال الشخصيات ، ما تقوله و ما تعرفه عن نفسها ، و بالطبع لم يكن من العبث استخدام الكاتب لرمزية المرايا التي يرسمها ( هو ) السارد الأول و الابن الوحيد للعائلة ، ما يُلاحظ بشدة هو فنية هذا التقديم و جمال التجريب في الشخصيات و آليات سردها .
نجد أن الكاتب أفسح مجالا لسرد ( الآخر ) ، و ( القطة ) ، و هذا تجريب متميز .
غير أني أحببت التوقف عند شخصية ( الآخر ) و الذي قد يصنف كـ صوت مريض لمصاب بالفصام الذهاني .
ففي الرواية العربية يندر أن تقدم مثل هذه الشخصية ، نعم شخصية ( عليان ) في رواية ( الثوب ) للأستاذ طالب الرفاعي قُدمت بفنية و احترافية ، هنا في أفعى تأكل ذيلها أُعطيت( شخصية الآخر ) مساحة أكبر و بمنظورين ، منظور ( هو) الشخص المصاب بالذهان ، و منظور ( الآخر ) بذاته ووعيه الخاص .
و ما أحب طرحه هو :
هل يكون ( الآخر ) بصوته المتغرغر بالماء هو الثمرة الناجحة لتجربة ( الانتحار الكموني ) التي سعى لها ( هو) ؟
ألم يكن يبحث ( هو) عن الخلود عبر الفناء ؟
و ألم يقل ( الآخر ) :
" و لكني للأسف فكرة ، و الأفكار مضادة للموت " ؟صفحة ٩٨
فهل نجحت التجربة و استحال ( هو) لفكرة ثابتة ؟

⁃ أشياء البيئة و النقد الذاتي :

رغم أن الرواية قدمت أشياء البيئة ، من خلال إزار الأب و طبيعة الزراعة ، لكنها بدت لي متحررة من قيد
المكان بحيث تتمدد قوالبها لتصلح للتجربة الإنسانية الممتدة .
لكن من الملفت أن الناص قدم نقدا ذاتيا للبيئة و طبيعة الأفكار و إن كنت أجد أن كل الشخوص الساردة على نسق تفكيري واحد متمرد ضد قوانين و مواريث المكان الأمر الذي لم أفضله و تمنيت أن تكون هنالك سعة لأفكار متوائمة للمُتداول ، بحيث يكون صوت إحدى الشخصيات مثلا مختلف .
نجد أيضا أن الناص ضمن نقدا حول طبيعة الأنشطة الثقافية و هشاشة ما يقدم ، و بعض الظواهر السلبية الأخرى مما يبسط تلك الصور على طاولة التشريح .

هذه الرواية رحلة عميقة على قصرها ، تحفز الأسئلة بمتنانة و ابتكار .
الحديقة الحمراء


لا يمكن أن تُقارب روح هذه الرواية دون معاودة قراءتها ، الحديقة الحمراء لـ #محمد_آيت_حنا رواية تقوم على عالم متداخل من :
الروايات
و الحكايات الشعبية
و التاريخ بتراثه و راهنه
و ربما الأساطير ..
و أخيرا الجانب العقدي .
تبدأ الرواية بقصة الطفل الشغوف بالقصص العالمية الذي ينتظر حلقات المسلسل الكارتوني بفارغ الصبر و يسابق الخطو للوصول لبيته حيث يبقى في ضيافة قصة عن رجل فقد ظله مما يسلبه ذاته .
.
.
من المميز في الرواية أنها كما يبدو تقوم على نسيج متعدد ، رغم أن مستهل كل فصل يبدأ بفقرة أو عبارة من رواية الجحيم لدانتي إلا أن الفصول تُظهر اشتغال الكاتب على حكايات عدة ، و مما يَلفت النظر أن الناص يبرع في ترتيب الفصول بحيثية معينة إذ يقدم للقارئ فصلا " سهلا " يدور حول الحياة الإجتماعية و مآزق الإنسانية ثم يعقبه بفصل يظهر كعالم تجريدي فلسفي ، و رغم ذلك لا تشعر - كقارئ - بالنشاز إذ تبقى في رهن لذة الحبكة .
.
.
فصل " أرض التوأمين " كان أكثر الفصول دهشة ، أظهر قلق الكاتب تجاه قضايا الطفولة ، رسم من خلاله عدة مشاهد لمعاناة الجياع و المتعبين كما تطرق لقضية الطفل السوري الغريق المؤلمة برمزية شديدة الجمال و الوجع .
.
.
شخصيات النص مدهشة و محيرة ، و مبتكرة أيضا ، فنحن نقرأ عن حارس أحلام يخون أمانة ، و حارس مرمى ، و لا أظن أن رفقتهما في الرواية كانت من ضروب العبث ، كما نقرأ عن ملاحق بثأر يأوي من القرية إلى المدينة و عن قارئ متبتل في محراب الكتب .
.
.
لغة الرواية فاتنة ، نافذة إلى العمق ، تجبر المتلقى على معاودة الحضور في ضيافة العبارة ، سيالة و ذكية أيضا .
و أعتقد أن ثمة رابط وثيق بين فصول جحيم دانتي و عنوان الرواية . فهل تكون الحديقة الحمراء هي الجحيم ؟
مشي سريع لـ حسين خليل :


أقدّر - بكل غبطة- النصوص المقدمة لمكتبة النشء ، و بالذات تلك التي تحترم شغف القارئ - اليافع - و لا تستغفله بنصوص مقيدة بالوعظ أو الاستسهال .
رواية مشي سريع للكاتب حسين خليل و الصادرة عن دار رؤى من الروايات الجميلة و المُعتنية بأدب الناشئة ، و التي تحكي قصة الشاب هود ، و تسرد انعطافا هاما يحدث في حياته فيعيد تشكيلها من جديد .
ثمانية أيام هي عامل الزمن الذي تقوم عليه الرواية ، و يتداخل معها اختزان الذاكرة ، يعرض الناص من خلالها أهم الأمور التي تتقاطع مع حياة المراهق و مآزقه الذاتية ، بجرأة ، ووضوح ، و إمتاع ، و تحفيز من خلال حبكة نَشطة تدفعه للمضي في قراءة الرواية .
.
.
الشخصيات :
هود هو الشخصية المحورية للنص ، شاب دون السادسة عشر ، يروي حكاياه في البيت و المدرسة و بيوت الأقارب .
و أعجبني جدا اشتغال الكاتب على تقديم النص بمكونات من قلق عالم المراهق ، و تكوين عالم مؤثر عبر أشياء و اهتمامته ، و أسئلته أيضا .
ترد في النص أيضا شخصية سلوم الملفتة و التي تعرض نموذجا آخر من مربع الشخصيات و التي عالج وجودها المؤلف بدقة .
من الشخصيات المؤثرة أيضا شخصية الأب بتناقضها و عفويتها و حقيقتها المقدمة دون تكلف ، و الأم ، و أيضا الأستاذ ، و أخيرا التوأم محمود الذي اقتنص الناص كينونته ليقدم رسائل جميلة جدا عن أهمية علاقة الأخوة و تأثير الاستقرار الأسري بشكل عام .
.
.
اللغة :
قُدم العمل بلغة سلسة تناسب المتلقي المفترض ، كما شغل العمل العديد من الحوارات السيالة التي خدمت الحبكة و عززت المشهدية الماتعة .
.
.
أعتقد أن هذا العمل لا يُحصر في دائرة القارئ الناشئ ، بل يمتد إلى الآباء و المربين لاحتوائه على العديد من الرسائل التربوية الشاغلة لذهن المراهق ، و أسئلته الحيوية ، و احتوائه أيضا على خطوات جميلة قدمها الكاتب من خلال تفاعل شخصية الأم مع " هود " و مبادئ العقاب و الثواب الممارسة .
نحو الاكتمال
لمحة في نص مدينة بنصف قلب
لـ بثينة العيسى .
.
.
هنالك نصوص تتضمن رسائل عميقة لكنها تعمد إلى آلية سلسة للتقديمها عبر مكونات أشبه بنقاط تجر انتباه المتلقي .
تحضرني رواية الطائر الأبيض في البلاد الرمادية لـ إستبرق أحمد @estabraq_ahmad1 و التي تظهر في للوهلة الأولى بمكونات سردية من أشياء عالم الطفل ( قطقوط و فروفور و طائر و عمود إنارة شائخ ) بينما هي تحفر في عمق الإنسان لتتحدث عن قضاياه .
نص مدينة بنصف قلب للروائية أ بثينة العيسى نص مراوغ كذلك ، حجمه المركز و جُمله البسيطة تشبه نقاطا مضيئة في العتمة ، مُرشدة و محيرة في وقت واحد و محفزة على التفكير .
يُحيلنا النص في المستوى الأول للتلقي إلى مدينة غرائبية لكننا بعد التعرف على النص نتأكد إننا في حضرة مدينة شديدة التماس بحيواتنا . مدينة بنصف قلب ، أي أنها تُعطّل قسما من الشعور .. قسما من الحياة ، و ترتضي بالعيش المجزوء .
أشعر أن النص يقول لي أن الإنسان يرى فقط ما يريد أن يراه ، و يشكل قناعاته و اعتقاداته و ممارساته و أفكاره أيضا وِفق هذه الرؤية ، و الرسالة الهامة هنا أن نفتح أعيننا أكثر .. ربما .
.
.
أحببت اشتغال الناصة على شخصية الطفل الذي لم يقنع بهيمنة الفكرة الطاغية على الأفكار الأخرى ، و أحببت تقنية السرد إذ كانت الناصة تؤكد في أكثر من موضع أن هذا الطفل وحيد ، وحده كان خائفا ، ووحده استمع لمشاعر الخوف الحبيسة خلف السور ، و بالنهاية وحده استطاع تحريرها و إحياء النصف المعطل من الحياة للاكتمال . ربما كان الطفل هنا هو الضمير الحي ، أو الفطرة السليمة النقية ، أو ربما البصيرة التي لم تتلوث بعد .
.
.
هذا النص ممتد ، يخبرنا أن لكل شعور مكان في حياتنا ، و ربما لكل شيء غاية ، لكل شيء معنى .
التحليق على أجنحة الأمان في تنين الجليد :
.
.
تقدّم روايات الناشئة مرارا ثيمة العلاقة بين الإنسان و الكائن الغريب ، و رغم هذا التكرار إلا أن هذه الثيمة تبقى ذات جاذبية و إمتاع في نصوص الناشئة و عموم النصوص إذا ما أُحسن تقديمها .
و من هذه النصوص رواية تنين الجليد لـ جورج آر آر مارتن ، من إصدار منشورات تكوين ، و التي تشبه رحلة قصيرة على أجنحة حلم ، لكنها على قصرها غنية و ملئى بالمشاعر الحساسة ، و قيم ناصعة كالمروءة و التضحية .
نبقى في هذه الرواية مع آدارا ، طفلة السابعة التي وُلدت في أشد أوقات السنة بردا . آدارا التي فقدت أمها أثناء ولادتها ، و التي تعيش مع أسرتها المكونة من أب و أخت و أخ ، تبقيهم دائما على مسافة تخلقها من أفكارها و رُؤاها الخاصة ، لتصنع لذاتها قالبا من جليد يشبهها تماما و يفصلها عن مُحيطها .
شخصية آدارا و إن قُدمت عبر قصة خيالية إلا أن لها إسقاطا كبيرا في واقعنا ، و تقاطعا مع خصوصية المراهق و حساسية أحواله .
.
.
-هَول الحرب :
تفتح الرواية على قصرها بابا لمشاعر شاسعة يشكلها قلق الحروب ، و ما تصنعه من دمار لمظاهر الحياة كما جرى على مزرعة أبي آدارا ، و على الإنسان ، و على مخيلة الطفل ، و تُقدم الرواية لقارئها قيمة السلام و ما يُمكن أن يُقدّم من أجله ، و ما يمكن أن يُغيره السلام في عمق الكائن أيا كان .
.
.
- العبارة أجنحة :
قُدمت الرواية عبر لغة جميلة، عميقة الدلالة بحيث أعطت كل عبارة صورا تحمل المتلقي إلى أشياء المكان ، و بلغت دقة التصوير بحيث أن تُشكل العبارة منفذا لروح كل شخصية ، و هواجسها و أمانيها ، و هذا من أجمل فنيات العمل .
.
.
هذه الرواية من جميل ما يقدم لمكتبة الناشئ بحيث تسحبه من طبقات يومه إلى عالم ماتع مؤثث بالفكرة الجميلة و العبارة العذبة .
إستنطاق الأشياء
في روايات سعود السنعوسي

يشغل نتاج سعود السنعوسي شريحة كبرى من القراء ، ذلك أن الكاتب الكويتي قدر أن يكرس تجربته للمستقبلين من الوطن العربي و خارجه عبر تجارب ملفتة ، كما أنه قدم في الرواية أكثر من لون سردي يجتذب الذائقة العامة مثل ما قدم في : سجين المرايا  و ساق البامبو و فئران أمي حصة ، و ما قدمه للقارئ المختلف في حمام الدار و ربما ناقة صالحة ، و من الملاحظ أن الناص - من بعد تجربة ساق البامبو -–اتجه إلى الاشتغال على تضمين روح الكائن الصامت و إنطاقه بما يخدم فكرة العمل و يفتح أبوابا على عوالم رحبة من التأمل و استنطاق الموجودات ثم إشراكها في بطولة العمل إن لم يكن تضمينها هو روح النص .

-الكائن : الرمز و التجسيد .
كانت البداية مع فئران أمي حصة ، الرواية التي قدم من خلالها الكاتب قلقه الخاص الذي يمس الشارع الكويتي و ما يزعزع أمنه من عواصف الطائفية . قامت الرواية بخلق حالة إنذار ، و تحذير ، في قالب سردي قوامه يوم واحد فقط ينتقل فيه البطل بسيارته بين ضفتين يفصلهما نهر الموت الآسن ، و يقوم البطل من خلال هذه الرحلة باستذكار الماضي و نبش الحاضر و ترتيب الأحداث التي تشكل في متن الرواية نقاط التحذير و الأسباب و النتائج التي أراد أن يلفت لها ضيفه القارئ . في هذه الراوية اعتمد الكاتب على الفئران الأربعة : "شرر و جمر ولظى و رماد " فصارت الفئران أطرافا متحركة تمشي بالرواية عبر مسارها السردي و تحمل فوق أجسامها الحكاية و تقرض بأسنانها سور الوطن الآمن.
فمن هو الفأر هنا ؟
يعتبر الفأر رمزا للنحس في بعض الثقافات كما في ملحمة حرب الضفادع و الفئران من الثقافة اليونانية ، و الفأر يُلقي بفكرة سوء الطالع كما في ثقافات أخرى الكاتب في روايته فعّل فئرانه لتحمل أسس الرواية الضمنية في العمل و هي التي تحمل عنوان( إرث النار ) ، و فعّل رمزيتها في حمل الخراب لأرض الوطن .
ثم قدّم الناص حمام الدار ، العمل الذي قفز فيه الكاتب على توقعات القارئ عبر اشتغال ذكي و لامع ليُنطق من خلاله صمت الأشياء و الكائنات و يشغل فكرة المتلقي أيضا.
في حمام الدار لم تكن البطولة للحمام فقط ، فقد شاطرت الحمامات المُسافرة كائنات أخرى في بطولة العمل ، و في الواقع لم تكن الكائنات الأخرى -هنا - محصورة بالرمزية بل لنقل : امتدت لتّقدم ما يمكن أن يُسمى برمزية الرمزية !
ففي النص كان الكائن يقدم كرمز ثم كتجسيد ليخلق حالة من التصوّر الحسي و الشعوري في الوعي ، فتارة تكون قطنة خادمة مستضعفة و مستغلة و تارة تكون شاة بيضاء و تارة تكون امرأة متمردة و مُحرضة على الخلاص من سطوة الكاتب و في لحظة ما ممكن أن تكون كلهم معا ، و لا يُعلم إلى ماذا يُمكن أن تؤول بعد ذلك .
" كُنتُ مطرقة مترددة وقت قطّب مؤلفنا حاجبيه .نظر إليّ شاخصا. تمتم : مممممـ هذه أنت يا قطنة! هززتُ رأسي . حدثيني عنكِ و عما يجري هنا . أجفلت ُ . أنا ! فرّ صوتي . ابتلعتُ ريقي قبل أن أُردف . كيف لي أن أعرف مالا تعرف ؟"
حمام الدار ص : ٨٨
فالكاتب هنا قد تجاوز تجريب الأنسنة ، و لم تعد الكائنات محصورة في إيطار الرمزية بل تعدى إلى مستويات أعلى من التأثير .

أما في ناقة صالحة ، فالأمر أخذ بُعدا أعمق ، فقد اعتمد الناص توزيع الحكاية على الشخوص كـ نظائر ، فهنالك صالحة الثكلى و هنالك ناقتها ( الخلوج ) ، و ذلك التسانخ المُتقن بين الحياتين ، اليُتم و التقادم و الارتباط و الأمومة و الجوع ثم التيه و الفقد . ثم يدور بنا العمل لتكنيك آخر اعتمده الناص لتوريد فكرة الغربة و النفي و الهجرة ، و هو ربط رغاء الناقة و ما يحمله من رمزيات قديمة وُظفت في الأدب العربي و الشعبي أيضا بـ قصائد دخيل بن أسمر " الشخصية التي خلقها حرف الرواية و صدّقنا و اعتقدنا بوجودها " ثم بقصائد الشاعر دخيل خليفة ، هذا الرغاء المشبع بالحنين و لوعة الفقد ماذا يمكن أن يحمل؟ أيكون هو عينه بوح القصيدة في بُعد آخر من التلقي؟

-أشياء المكان و الزمان :
من الممكن أن يتم تقسيم روايات سعود السنعوسي وفق هذه الأزمنة :
⁃ الماضي : كما في ناقة صالحة .
⁃ المعاصر : كما في ساق البامبو و سجين المرايا .
⁃ المستقبل التخيلي كما في فئران أمي حصة.
⁃ اللازمن : كما في حمام الدار .
و من الملاحظ أن الروايات كلها أرفدت صورة المكان بتأثيث ذكي يتناغم مع الزمان و مستلزماته ، فالسرد في ناقة صالحة يستدعي أشياء الصحراء فنكاد نسمع حواراتها التي تتضافر مع الشخصيات و الحدث ليكتمل العمل ، كل مكونات الصحراء تحكي، الرمل ، رمث النار ، الأعشاب المتصبرة ، ثم بيت الشّعر و النار الأليفة قربه ، المزودة التي يحملها أهل البادية ، ترسم في أخيلة المتلقى صورها و تهمس في روعه ببوحها الخاص ، و حين ينتقل " دخيل " من البادية إلى إمارة الكويت نجد أيضا أن المكان يعبّر عن نفسه بخصوصياته و أُناسه .
بوح الأشياء هذا نتلقاه في كل أعمال الناص بفنية عالية ، ليُحيلنا لحالة التماس الحميم مع روح العمل .
اللغة النابضة :
اللغة كائن متحرك بالأصل، ناطق ، نابض و حيوي ، لكن يبقى أنه على الناص أن يُحسن الاشتغال عليها و توظيف تقنياتها حسب أجواء النص ، مما لا يُشكل نشازا لدى القارئ أو عزلة ، أو إقصاء عن المعنى . في نتاج سعود السنعوسي اللغة ذكية و موظفة بما يخدم العمل ، تبدو لغة الناص سيالة في مجراها الذي يروي عروق النص و يقدمه للمتلقي نضرا و شهيا .
ففي فئران أمي حصة بدت المفردات متناغمة مع جو الرواية ، الحواريات مُقنعة ، المفردات متناغمة مع المكان و الزمان و القضية .
و في حمام الدار كانت اللغة محترفة تشبه كثيرا روح الكاتب الذي يخلق النص اللقيط و النص النسيب و يحيّر القارئ بينهما .
أما في ناقة صالحة فجاءت اللغة موغلة في الأصالة ، و التراكيب حملت متلقيها إلى روح البادية ، مما خلق حالة من التواصل مع روح العمل .
قراءات pinned «إستنطاق الأشياء في روايات سعود السنعوسي يشغل نتاج سعود السنعوسي شريحة كبرى من القراء ، ذلك أن الكاتب الكويتي قدر أن يكرس تجربته للمستقبلين من الوطن العربي و خارجه عبر تجارب ملفتة ، كما أنه قدم في الرواية أكثر من لون سردي يجتذب الذائقة العامة مثل ما قدم في…»
في أحشاء التاريخ :
.
.
احترام الوعي من جميل ما يقدّمه الكاتب لقرائه ، و تحفيزه في خوض مغامرة مغايرة ، و سحبه إلى اكتشاف الجديد في نصوصه لإعلاء سقف المتوقع .
أقرأ للكاتبة البحرينية مريم المدحوب تجاربها الروائية و أعرف أنها تنظر للكتابة على أنها صلاتها الخاصة . إذ أني أتلمس صدقها و اجتهادها و اشتغالها في كل سطر .
.
.
في قارئ الألواح تمازج مريم بين الماضي و الراهن ، تأخذنا مع هادي عبر رحلة بحثية و كشفية في أحشاء التاريخ لتتبع سر طفلة صغيرة ماتت في خربة و صارت رمزا لأطفال الحروب و المعارك . مريم هنا لا تقدّم الأحداث بصورة سردية اعتيادية إنما تجتهد في تمييز قالبها الروائي ، بين سرد مشهدي و حوارات ، و أسئلة و قلق ، و سفر عميق لنعيش هاجس الشخصية " هادي " و نراه تارة بعين ذاته و تارة أخرى بعين المحيطين به .
.
.
لا أحب أن تشغلني العاطفة حين أقرأ الكتب التي تصب في مجرى عقدي ، حتى لا يحجبني التأثير عن إعطاء فنيات العمل حقها و النظر بتجرد لاشتغال الكاتب . في الواقع أجد مريم في قارئ الألواح تحرص على الاهتمام بروح الرواية و قالبها ، فحين تستمر بنقل المتلقي من الراهن إلى الماضي تعتني بأشياء المكان ، و تدرس خصوصية الزمن ، فاللغة و الشخوص و الحدث و البيئة كلها مدروسة و تجتهد في إقناع القارئ .
.
.
استوقفتني شخصيات العمل ، بمعزل عن هادي و علاقاته المتوترة بمن حوله ، قدمت مريم أشخاصا من الواقع بصورة تثير الدهشة ، مقنعة و متفردة ، و من ثم حين عرجت بنا إلى الشق التاريخي استمرت بمواجهات صارمة مع شخصيات العمل الغابرة ، إذ كانت هنالك مناورات حوارية إن صح التعبير و استجواب بنحو مفجع أحيانا و مثير للغضب أحيانا أخرى ، كنت أتساءل حين أقرأ ذلك الجزء من الرواية عن ماهية شعور الجلاد حين يعذّب ضحيته ؟
" مهمة صعبة أن تضرب مرارا على رأسك لترى الحياة كما لو كنت لم ترها من قبل . كانت حياتي ثقبا صغيرا ، كلما حان يوم ميلادي اتسع أكثر . لا أدري كيف تبدلت صورة الحياة أمامي ؟ أم أنا فقط من ينظر إليها بطريقة مشوهة "
.
.
إنها مهمة صعبة بصدق ، أن يُحاول الإنسان - في فرصة الحياة- أن يمارس استيعابا حقيقيا لذاته و لما حوله ، و في رواية " لم أعد إنجليزيا يا أبي - يقدّم الكاتب أحمد الزمام هذه المحاولة عبر تجربة روائية لها طابعها الخاص ، إذ اعتنت الرواية بمأزق الإنسان ، عبر شخصية البطل " خالد " منذ طفولته إلى أثره الباقي بعد موته ، و مسّت أبعاده كلها ، بداية من القالب الشكلي الذي يتفرد بطبيعته حيث ضمّن الكاتب وصفا لملامح البشرة و الشعر و العينين بنسق متعمد و مدروس و إلى القلب و اعتملاته و الفكرة و حروبها و أخيرا السلوك .
.
.
قدم الناص الرواية عبر مئتي صفحة من القطع المتوسط ، مليئة بالأحداث و الأفكار و التحولات ، متنوعة الأماكن - بيئة الصراع - و مناقِشة لأدوار هذا الكائن و ما يمكن أن يفاجئ به ذاته حين يقع تحت ضغط ما .
يقول الكاتب في صفحة ٥٤ :
"هذا الإنسان الذي نبحث عنه فينا يغرق بحيوانيته حين يغضب "
و إذ قدّم الناص شخصية خالد بتناقضاتها ، تبدلاتها ، ركونها للفضيلة و نقيض ذلك ، فإنه من خلالها يحرض القارئ على الوقوف على حواف المكاشفات المتوالية مع الذات .
.
ناقش الناص أيضا موضوعات ثقافية تنم عما يعتني به الكاتب ، و قدّم رؤى فلسفية عديدة تجاه قضايا الراهن ، اللغة و الكتابة و الانتماء و الثقافة و تعريفها ، كما تسلل مع القارئ إلى مواطن الفساد الإداري و كشف عورات عديدة في الذات و أجهزة النظام الداخلي لما يقوم عليه الوطن .
فمن خلال تواجد خالد في عنابر السجن تكشفت العديد من صور الاستغلال ومن خلال مناقشة خالد مع طلسم تبينت ملامح الحياة الثقافية ، حتى حين تعرض لمناقشة رواية الكوكب الأخضر بين الناص رؤاه الخاصة المتعلقة بآلية القراءة .
.
.
الشخصيات:
قدّمت الرواية عدة شخصيات كان لها الأثر البليغ في مسار الرواية ، حتى تلك الهامشية كالحصني أو أبي حسين الأسود أو الديناصور و غيرهم من الشخصيات .لكن ربما تكون شخصية الأب هي الشخصية الأكثر تأثيرا ، و لا أعني هنا أب خالد فقط ، و إن كان حاضرا في كل فصول الرواية إنما أعني خالد الأب أيضا ، فالكاتب بدأ الرواية بالدور الأبوي و ختمها به و أعتقد أن في ذلك إشارة مقصودة لأثر التكوين الأول للذات .
أعتقد أن الرواية اشتملت على شخصيات الحياة الأهم ، فحتى المرأة المعنفة وجدت لها مكانا عن طريق شخصية سلمى ، و في عنابر السجن التقى القارئ بشخصيات متنوعة .
.
.
اللغة :
للكاتب لغته الخاصة ، الواضحة ، المتناسبة مع روح العمل .
توقفت عند آلية التقديم بحيث سُردت بعض المقاطع - و ليست الفصول الكاملة - بلسان الراوي العليم و من ثم انتقل السرد ليسيل على لسان الشخصية ، لكني أعتقد أن ذلك لم يحل بين المتلقي و النص و إن سبب بعض الإرباك في مواطن معينة .
قائمتي التي تضمنت أكثر الكتب تأثيرا ، أو تلك التي شدني من خلالها فصل أو جزء بغض النظر عن مُجمل الكتاب .

١: الأدب
أ : الرواية

- ناقة صالحة / سعود السنعوسي؛

أستطيع أن أوكد أني لو أحببت زيارة مناطق التجريب الروائي لما عدوت نتاج أستاذ سعود السنعوسي ، ذلك أن قراءة أعماله تشبه التحضير لدراسة ما ، و لا أعني أن صعوبة العمل يرفع من مستواه ، و لا أعتقد أيضا أن على الرواية المؤثرة أن تكون مستصعبة ، إنما أحببت أن الرواية تحفّز اكتشافات القارئ و تراوغ فهمه ليتحصل على نتيجته باطمئنان تام و بجهد ذاتي .
نلاحظ مثلا أن خط أعمال أ سعود يسير في مسار التحفيز و الاكتشاف ، و من ثم اختلاف رؤى شخوص الرواية حول الحدث العام .. حسنا أليس هذا هو الحاصل في الحياة الواقعية ، بمعنى آخر : هل اتفقت رؤى البشر على وقائع و كونت رأيا ثابتا إزاءها ؟

- سلسلة مقبرة الكتب المنسية / كارلوس زافون :

تفاوتت مستويات الروايات الأربع لكن قد يتفق القراء حول حقيقة الذكاء السردي البارز في الرباعية ، و جمال الحِيل و الإمتاع الذي يدفع المتلقي للسير في دهاليز مقبرة الكتب المنسية .

-نتاج فريد رمضان /ماء النعيم - البرزخ - المحيط الإنجليزي :

تعرفت على قلم فريد رمضان عبر رواية السوافح ( ماء النعيم ) مما حرضّني على البحث عن نتاجاته الأخرى . و أشد ما يعجبني في حضرة القراءة أن أقرأ لكاتب لا يشبه إلا نفسه . كتابة فريد رمضان تشبه السفر على ظهر غيمة ، تشبه التجول في حدائق حُلمية ، يتداخل فيها الحدث بالأطياف بالشعور المجرد ثم بالحس ، شخصياته ذات تضاريس مُلفتة و لغته مشبعة بالتأثير .
قد تكون رواية البرزخ هي الأبسط من بين الروايات الثلاث ، و الأصغر حجما ، لكنها طرحت موضوعا أحب الاستزادة منه ، حيث كانت الرواية تدور على حواف عالم الموت بآلية متجددة .

-قارئ الألواح / مريم المدحوب :

أظل أقسو على النص المنطلق من مُسلّمات عقائدية ، و أجدني لا أتساهل معه في الفنيات ، لأني - أحاول - أن أقرأه بعين المُستكشف لا المطمئن ، و مريم المدحوب في رحلتها عبر قارئ الألواح مكنتني من احترام جهدها و أدواتها و إطلالتها على التاريخ ببحث و استفهامات حاولت أن تُشبع بها قارءها .
أعتقد أن الباحث عن شخصية الطفلة رقية بنت الحسين عليه السلام عليه ألا يتجاوز هذا النص .

-ظلال الأزرق الخائف / ريما إبراهيم :

تتبعت نتاج ريما الأدبي ، حرصت على تلقف جديدها ، لكني أوقن أن روايتها الأخيرة مُختلفة . رواية تُأنسن بها قبوا في بلد الحرب لتحشد قارءها بالحكايا ، ثم تعود و تقحمه في اعترافات و بوح الشخصيات ليبحث عن البطل " حسن " و يتساءل عن حقيقته ؛ أ هو مناضل أم مجنون أم عميل خائن ؟ وازنت ريما بين هيمنة المكان على الرواية و بين تأثير الشخوص .

-كل الأشياء / بثينة العيسى :

و أيضا أتلقف نصوص بثينة العيسى ، و أنتظر جديدها ، و في روايتها كل الأشياء تأثرت بآلية الكتابة حول : التمرد / الإيمان / السجون/ و اختيار المصير . لا أستطيع أن أقول أن الرواية قدّمت أدب السجون بتعمق ذلك أن قرات في نفس العام و أعوام سابقة العديد من الروايات التي تجعل السجن مكان و معترك الرواية الرئيسي ، غير أن "كل الأشياء" على محدودية المساحة التي تضمّنت أحوال البطل في السجن استطاعت أن يكون لها تأثير نافذ و عميق .

-عيونهم كانت تراقب الرب / زورا نيل هرستون :

أقدر الروايات الدائرة في فلم حقوق الأقلية و تحاور موضوع العنصرية ، و أجد أن هذه الرواية من أهمها .

-فسحة للجنون / سعد محمد رحيم :

هذه الرواية - على كآبتها - مبهرة . أعرف أن الكاتب العراقي سعد رحيم يعتني بالأجناس الأدبية في معظم رواياته ، فمثلا قرأنا المشهدية و الرسائل و السرد في مقتل بائع الكتب ، و في فسحة للجنون تجلت عبقرية الكاتب إذ استطاع أن يقحم القارئ في عقل الشخصية حيث حكمتها و جنونها ، ماضيها و حاضرها . كنت أجد الفصول مبهرة و شديدة التأثير و اللغة ناجحة في ايصال كل الحالات النفسية المبطنة للشخصيات .

ب :المجموعات القصصية :

-مرصد المتاهة / إستبرق أحمد - أفراح الهندال - سوزان خواتمي :

تجربة متفردة جدا في النصوص القصصية ، يستحق كل نص أن يُعتنى به و تُستقرأ جوانبه . أحببت النصوص : طرحا و لغة و إشارات ، أحببت الغضب للإنسان و الأسف على التضييع . باختصار مجموعة ذكية جدا .

جـ : أدب الناشئة :

-رجال صغار / لويزا ماي إلكوت :

أرجح أن الكتابة للناشئة تتطلب جهدا مضاعفا من الكاتب حتى لا يقع في فخ الوعظ و لا في فخ الاستسهال ، طبيعة الناشئة تفترض أحداثا مقنعة لتمرير الرسائل العميقة ، و هذا النص من ضمن التجارب الراقية و الجاذبة الموجهة لهذه الفئة .

د : الشعر :

أعترف أني حددت من قراءة الشعر هذا العام ، سابقا كنت أقرأ ما لا يقل عن ثلاث قصائد في الأسبوع ، و لابد أن يستضيف شهري ديوانا حديثا لتجارب أحد الشعراء .
هذه السنة كان الأمر مختلفا ، كنت أشعر بضرورة الانغماس بحدث ما عبر الرواية و الكتب النقدية ، و مع ذلك أستطيع أن أقول أني أحببت قراءة جدارية محمود درويش و كنت أزورها بعض الأيام .

٢/ قراءات أخرى :

-نقد النص / علي حرب
-أبطال بلا تاريخ / فاضل الربيعي
-المناحة العظيمة / فاضل الربعي
-دراسات في القصة القصيرة جدا : علي حمداوي
-مقاربات نقدية / د سمير الخليل : قرأت جزء منه و كان بالغ التأثير .
-تربية طفل متمرد : ترجمة أيهم الصباغ
-عوالم الإنسان و منازله / الشيخ محمد السند
-ما بعد كربلاء : الشيخ محمد قانصو

بالطبع كانت هنالك كتب و تجارب جميلة أخرى لكن أستطيع القول أن هذه القائمة هي الأبلغ تأثيرا في هذه السنة .
أحمال الكائن الثقيلة
في رواية العربانة لماهر عباس
 
يُقال أن الرواية الأولى لأي كاتب تنطلق من منطلقات شديدة الذاتية ، أو لنقل أنها تنبع من أخص مواطن التأثير لديه ، مما يكوّن الدافع المُلّح الذي يشحذ همته لإتمام العمل . و ربما يجب التعاطي مع هذه الرواية الأولى بنوع من التفهم مع استقراء خط الكاتب السردي المُقبل . إلا أن هذا التعاطي المتفهم لابد أن يكون موضوعيا مع ذلك .
في رواية " العربانة " للكاتب البحريني ماهر عباس نجد تلك الذاتية المؤكِدة أن الكاتب مخلص لبيئته التي حرضته على الكتابة حولها ليأخذنا بمسار – مثالي- و عبر معايير روائية واضحة و متنامية إلى الحياة في البحرين ، في الأحياء البسيطة ، و تعب الكادحين في الأسواق ، و مثابرتهم لتحصيل لقمة العيش، و تلك الصراعات مابين الأغنياء و الفقراء ، أبناء العوائل و أبناء المدمنين .
و حين أن نقول أن المعايير واضحة فذلك لأن الناص بنى عمله من خلال تنامي العناصر الروائية  دون اللجوء للتجريب في التقنيات أو الاشتغال على تقديم شكل متجدد للرواية . فنجد مثلا أن كل العناصر قُدمت بصورة بسيطة متنامية . فعجلة الزمان تسير من الماضي إلى الحاضر دون اللجوء لتقنية الاسترجاع في الفصول مثلا ، و أشياء المكان أتت واضحة ما بين قرية سنابس إلى سوق جد حفص إلى الصين و العودة إلى المنامة مرة أخرى ، و شخصية عباس و هو الشاغل الأكبر للرواية أو لنقل أنه الشاغل الوحيد الذي تدور حوله الأحداث و الشخوص ظهرت في الرواية عبر خط متصاعد من طفولته الحزينة المتوارية خلف غطاء الفراش ، و خلف التناوم للتخفي عن العنف الذي يُمارسه والده المدمن على أمه ، إلى تدرجه في المراحل الدراسية و من ثم ترك التحصيل العلمي للعمل خلف العربانة في سوق جد حفص ، و عبور كل ذلك إلى كهولته ما بين الصحة و المرض و العوز و الغنى . حتى لغة الرواية قُدمت بوضوح سلس ، سيال مع الأحداث ، لغة مناسبة للغة الطفل " عباس " الذي بدأ سرد الرواية طفلا و قفلها ناضجا تكبر معه و تنضج . و أعتقد أن هذا الوضوح و التنامي المتوقع في الرواية يؤكد أنها قوامها الأساسي يرتكز بكل بساطة على الحكاية ، حكاية عباس .
رغم ذلك ، نجد أن الناص أثث الرواية بشخصيات عدة ، تشبه عباس و تؤاكل معه فقره و كدحه كشخصيات من العمالة الوافدة ، و أخرى تشذ عنه . و لعل شخصية " الوالد " تعد من أميز ما رسم الكاتب إذ قدمها بتضاريس لافتة ، حية جدا و حقيقية . فأحيانا تطفح أبوته حنانا و اهتماما و أخرى يدير ظهره لإبنيه ليواجها وحدهما قسوة الحياة و متاعب البقاء في بيت زوج الأم . أحيانا يكون الشخص الملتزم دينيا الذي يحرم على زوجته العمل خارج المنزل و أخرى يرتدي ثوب اللامبالاة و يتكرها وحيدة تستقرض من أخيها المال و السيارة . الأمر الثابت في شخصية الأب أنه متطرف في كل حالاته ، مما يجعل قربه و بعده مؤذيان على حد سواء .
هذه العمل يشبه ببساطته و وضوحه حياة الكائن ، تدرجه في مراحل النضوج و مواجهة الخيارات ، و دفع أثمانها في الكثير من الأحيان ، فتلك العربة ستبقى أمامه ، يجرها لتحمل أعباء الغير فيما يعجز هو عن إطاقة حمولته الذاتية .
دلشاد : حكايات الجوع و الضحك
.
.
تواصل الكاتبة العمانية بشرى خلفان مشروعها الأدبي عبر تقديم روايتها الأخيرة بعنوان" دلشاد " الصادرة عن منشورات تكوين و التي يُعايش فيها المتلقي تجربة شديدة الفرادة على المستوى الإنساني و الأدبي و المعرفي .
تقوم الرواية – بحرفية عالية – على تعدد الأصوات بنحو يعدو كونه مجرد بناء روائي يُرفد الحدث و مساراته مع عجلتي الزمان و المكان عبر رؤى الشخوص المتنوعة و تعدد منظوراتها و أفكارها ، فيترك للقارئ حرية التعاطف مثلا أو اتخاذ موقف ما ، إنما يمتد لتأكيد أن هذا العمل يُحيل إلى سعة الحياة بكل تفاصيلها و يؤكد مفهوم تعقد المعاناة الإنسانية بتركيز يشعر المتلقي أنه المُمتحن بهذه التجارب المتعدية لأطرها السردية ، و المقذوف في قلب الصراع .
لقد أظهر العمل مقدرة الناصة على تحرير شخوص الرواية ، و إعطاء كل شخصية مساحتها المحررة لتُدير – في نطاقها المُكمل لنطاقات الرواية –عجلة الأحداث و تعبئ الفراغات التي تُكسب العمل لذة التتبع و دهشة ملاحقة الأسئلة. بل استطاعت الكاتبة أن تُميّز لكل شخصية – بذاتها – نبرات متعددة في مسار التحولات فنستمع مثلا لدلشاد الطفل بنبرة خاصة ، و دلشاد الشاب الجائع بنبرة أخرى و دلشاد الزوج و الأب و الكهل ، و نستمع لمريم الطفلة التي تضرب برأسها أبخرة الجوع ، ثم مريم الضاحكة المتوجعة من أتعاب العمل اليومي في بيت لوماه ، ثم مريم الوالهة ، و الزوجة ، و الأم المذعورة من أمومتها الطرية ، و أخيرا مريم التي أنهكتها المحن و هي تنزح لمنطقة أخرى هربا من جنون كراهية فردوس ، و تلك الأصوات بتعدد النبرات تؤكد إيصال فكرة التحولات بنحو مقنع لا يعتني بالألاعيب الشكلانية بقدر ما يحرص على نضوج العمل و اكتماله و إيصال كل شخصية لمرحلة الإشباع . و لم يكن عبثا و لا إقحاما تضمين شخصيات بدت هامشية في مسار الحكاية لكونها تقدم جديدا للصورة الكلية للرواية و لقيمتها المعرفية التي تغوص في تاريخ عمان و العالم العربي آنذاك .
-إحياء التاريخ :
تستقطع الرواية جزءً من تاريخ عمان الخاص و ملامح من التاريخ الشمولي للعالم ، إذ تطوف بالمتلقي عبر عمان و الهند و فلسطين و تستنطق حكاياته عبر سرد شخوصها ، فيحيلها من صورتها التجريدية إلى وقائع حسية ، ذات تضاريس و أبعاد و روائح و ذوق ، مصحوبة بوجهات نظر ساردها .تتحدث عن حقبة الجوع و الكساد في عمان و إفرازات الحروب الداخلية و الخارجية ، و عن ثورة غاندي في الهند ، وهجوم الروس على القلعة و مقتل الفرس و الأذريين . و عن طبيعة الصراع الطبقي ، و تندس خلف الأبواب الصامتة التي تدور خلفها حكايات الرق و العبيد ، و الخدم .
و كعادة الكاتبة -كما في رواية الباغ مثلا - ترسم ملامح المجتمع المتعدد بأعراقه و طوائفه و تحرض بنحو غير مباشر بل حاذق و مقنع على التسامح .
.
.
السيرة حكايات الجوع الطاغية :
تستحضر الرواية و بتركيز عالٍ إحساس الجوع المهيمن على المنطقة ، يتخذ الجوع أشكالا توصيفية عديدة عبر قوالب لغوية مبتكرة و متميزة كل مرة في سياق السرد و على ألسنة الشخوص . و بشكل عام فإن لغة الناصة على انسيابيتها و سيلانها اللين تصنع إحالات بالغة التأثير الحسي ، بالجوع و ألم المفاصل و وجع الرأس و غبش الرؤية ، و كذلك في الانزياح الشعوري نحو الخوف و الحزن و القلق و الجوع الذي وصفه " دلشاد " أنه من نوع آخر حين نظر إلى اهتمام الإبن حمد بأبيه الشيخ الضرير مبارك المخيني فتذكر أبوته المهدورة على عتبة باب بيت لوماه .
هذا التفاعل بين الحس و الشعور ، و الكيمياء الذكية بين المادي و اللامادي أكسب الرواية أبعادا حقيقية تجعل من لغة النص جسدا يمشي على جلد المتلقي فيُعاود إحالاته لروح الحكاية و ملاحقة سيرة دلشاد من البداية للمآل ، و هذه الحكايات المتضافرة بتطوراتها و تحولات شخوصها و أماكنها ( الحيّة ) شكلت عملا روائيا بليغا و حاذقا يقفز على التوقعات .
الضوء في عتمة النفق
قراءة في الخط الأبيض من الليل لـ خالد النصرالله


يُدهشني – و في كل قراءة لخالد النصرالله – تجدده الدائم و عبوره إلى مناطق جديدة في مساحة اشتغاله الأدبي ، و لا أدري أَ يُحسب للكاتب صوته المميز و نبرته الخاصة التي يتعرف عليه من خلالها قارئه في كل مرة فتكون أعماله بمثابة بصمة خاصة تؤول إليه ؛ أم يُحسب له ذلك التجرد من عمله السابق و الانبثاق المختلف كليا في عمله الجديد.
حين قرأت زاجل تعرفت على صوت الروائي خالد النصرالله و قلت في نفسي آنذاك أن هذه الرواية بذرة طيبة ، غير أني حين قرأت الدرك الأعلى أدركت أن صاحبها ناص مجدد بالفعل ، يتقن الاشتغال على تطوير أدواته ، لكني و بعد تعالقي مع قفلة " آخر الوصايا الصغيرة " بتقنيتها المختلفة و لغتها الموجهة ..تأكدت أني أمام كاتب متجدد ينبذ ذاتيته و ينحاز دوما للعمل نفسه ، و يمزّق قديمه ليلتم على نفسه ، أما عمله الأخير " الخط الأبيض من الليل" فتلك حكاية أخرى !
 
-الحكمة البيضاء في سواد العتمة :
تسرد الرواية حالة الصراع الدائرة بين الكاتب و الرقيب ، و للتخصيص قد نقدر أن نقول أنها تصور المشكلة التي تحدث حين يحل طرف ثالث بين القارئ و الكتاب ، طرف يعيق عملية التواصل و ينتحل صفة العين المسبقة التي تأكل من حرية التلقي .تبدأ الرواية بمشهد سردي سوداوي يهيء المتلقي للأحداث اللاحقة و يمكنه من تخمين ما ستؤول إليه ؛ على أن الكاتب يعيد تقديم مشهد البداية بنحو أكثر تفصيلا ، و أعتقد أن تلك من التقنيات المتينة التي اشتغل عليها ، إذ ساعدت على ترسيخ فكرة العمل و ضم المتلقي في الأجواء خصوصا و أن التكرار قدم تعزيزا لفهم النص دون إثقاله .
و لم يكن عبثا أن العنوان مُيز بتضمين نقيضين ، الخط الأبيض و هو فعل المقاومة و الليل المعتم المعبر عن الفكر الظلامي و القمعي، ذلك أن النص عزز تضمين هذه الفكرة في العبارة التي استخدمها " الثوار " إن صح التعبير أو " المقاومون " كعلامة على الطمأنينة و الثقة وهي عبارة " المعرفة في جوف الأرض و ليست في عنق السماء " و حين تسير عجلة العمل نكتشف أن الحكمة كلها كانت في ذلك العمق من الأرض حيث ينحت بطل الرواية خلاصة روحه .
الشخصية المحورية أيضا قُدمت بهذا النحو المتناقض ، فالبطل هو مدقق في جهة حكومية و قارئ نهم ، يعايش صراعا دائما بين الشغف و التكليف ، و تبدأ معاناته حين يتصادم مع نفسه عندما يُفاوض روائيا يعشق أعماله ليُغير في مسودة النص مفردة واحدة .
"هو عالق أيضا مع نفسه و يشعر بانغلاق من كل الاتجاهات ، هو ضابط و هارب في آن"
" الرواية صفحة 144
 
-بناء الشخصية :
أعتقد أن كتابة الشخصية الفريدة من أصعب الأمور في الرواية ، ذلك أن الكاتب يستطيع أن يقدم بأدواته الشخصيات المفهومة بنحو مقنع ، لتصير قريبة من المتلقي ، لكن الشخصية الفريدة تتطلب اشتغالا أكبر لتقنع القارئ بواقعيتها . شخصية المدقق من تلك الشخصيات الفريدة ، قارئ نهم منذ الطفولة يمتد عطشه لقراءة لافتات المحلات و حتى تفاصيل الفواتير، يقرر العمل في مكان يشببه مليئ بالكتب و بفعل القراءة ، يشترط على نفسه قراءة ألف كتاب قبل الاقتران بزوجة العمر . مثل هذه الشخصية قد تعرض الناص للسقوط في فخ المبالغة و عدم الإقناع لكن خالد النصرالله قدمها بصورة تتناغم مع جو الرواية العام فصارت حقيقية و مفهومة تستجلب كل الأثر المطلوب لتفاعل القارئ معها .
فبناء الشخصية بهذا النحو مكّن سيرها في خطها السردي المناسب ، و جعل من تطورها مقنعا بما يُناسب الأحداث اللاحقة ، فنجد مثلا أن المدقق هو الأكثر تأثرا من قرارات الفكر الشمولي التي استفحلت في البلاد ، و هو الذي يدمن أقراص تهدئة أعراض آلام المعدة جراء كل خطر يهدد الكتب .ثم نجده من بعد حادثة المطر الشديد يصاب بكآبة عظمى تغير ملامح حياته فيُعاود استخراج " نقيضيه " من أعماقه ، فيثور و يتعاون مع الروائي الفارس تارة ثم ينسحب لداخله و يرفض المشاركة في المظاهرات تارة أخرى إلى أن يقرر أن يُغلّف ذاته بالعزلة مع الكتب .
 
-اللغة المتناغمة :
إن رواية محورها الكتب ، و شخوصها مدقق و راوئي و مدير مطبعة و روائية جريئة حري بها أن تُكتب بهذه اللغة الفصيحة ، المتينة ، و حتى الحوارات جائت بالمستوى المطلوب منها . رغم ذلك لم تكن اللغة متكلفة ، كانت سيالة بقدر متانتها و متناغمة مع الأحداث التي تتقدم بايقاع خاص .
غلبت اللغة الوصفية في بعض الفصول ، بحيث طغى الوصف على الحدث ، و قُدمت بعض الفصول بإيقاع بطيء ، لكني أجد أن هذه الخطوات مدروسة من قِبل الناص لخلق حالة متماهية مع ما يجول في ذهن الشخصية المحورية " المدقق " .
 
HTML Embed Code:
2025/07/08 18:28:10
Back to Top