Channel: قراءات
التجريب في رواية ديابلوس :
قراءة ذوقية في رواية ديابلوس لـ أحمد محمدي .
.
.
التجريب في العمل الإبداعي لا يعني كسر القواعد بقدر ما يعني اتخاذها محطة مرنة لخلق أساليب فنية مبتكرة .
في ديابلوس نواجه هذا النوع من التجريب الإبداعي حيث يقفز الناص على القواعد بأدوات سردية تحرص على تقديم روح العمل بأبلغ صور التأثير قبل العناية بالقالب .
هنالك ملاحظة بارزة في التلقي المبدئي للرواية :
أن الرواية غير محصورة في مدرسة واحدة ، فهي رواية واقعية لكنها تقوم على أداة خيالية ، و أقصد في الأداة لغة السرد . فالمكان و الزمان و الشخصية الرئيسة و العقدة و الذروة كلها قد مرت بثلاثة أطوار في الرواية ، واضحة و لكنها مرمزة ، و مرمزة لكنها حقيقية ، أما اللغة و هي الأداة الأهم فاتسقت بنحو خيالي ، شعري ، تأملي .
هذه الممازجة لا تعيب الرواية لكنها تجعل تصنيفها ملتبسا و هذا تجريب ذكي لأن الأهم هو إيصال روح العمل .
.
.
- الشخصية /أطوار الكائن :
تتمحور الرواية حول ديابلوس ، الكائن الذي مر بأطوار ثلاث ، الطور الأول و هو الانتظار حيث تتنظر الشخصية وعدا تؤمن به ، بعد التفرغ التام و التنسك الدائم المطلق المجرد في محراب حب الله ، و تظهر هنا شخصية ديابلوس تقطر بالحنان و تصفو على كل المكدرات النفسية .
الطور الثاني هو طور الصدمة حيث تختلف أسس و ملامح حياته و يخسر ابنته في مساومة بين البقاء في العالم التحتي و بين العروج إلى العالم العلوي / المكان الروائي .
و هنا تظهر بعض السمات الأخرى لشخصيته .
الطور الثالث و هو طور الكشف ، حيث تتجلى حقيقة الشخصية و يلتحم المتلقي مع الحدث / المألوف المعروف ، منبهرا بالتقنية المدهشة .
.
.
تُظهر الرواية انطلاق الكاتب من موروث عقدي ، لكن الاشتغال الناجح على الأدوات حوّل الرواية من مادة تقليدية إلى عمل تجريبي .
فقط تمنيت أن تكون الرواية بمستوى المتلقى العادي ، ذلك القارئ الذي لا يريد أن يغرق في إبهام شخصيات غير معرفة ، كـالذي لم يسبق له معرفة ابنة ديابلوس مثلا .
الرواية عموما مؤثرة و أشد ما جذبني الرمزية الذكية في البحث عن ( العلم الناقص ) تلك الكف ذات الأصابع الخمس .
قراءة ذوقية في رواية ديابلوس لـ أحمد محمدي .
.
.
التجريب في العمل الإبداعي لا يعني كسر القواعد بقدر ما يعني اتخاذها محطة مرنة لخلق أساليب فنية مبتكرة .
في ديابلوس نواجه هذا النوع من التجريب الإبداعي حيث يقفز الناص على القواعد بأدوات سردية تحرص على تقديم روح العمل بأبلغ صور التأثير قبل العناية بالقالب .
هنالك ملاحظة بارزة في التلقي المبدئي للرواية :
أن الرواية غير محصورة في مدرسة واحدة ، فهي رواية واقعية لكنها تقوم على أداة خيالية ، و أقصد في الأداة لغة السرد . فالمكان و الزمان و الشخصية الرئيسة و العقدة و الذروة كلها قد مرت بثلاثة أطوار في الرواية ، واضحة و لكنها مرمزة ، و مرمزة لكنها حقيقية ، أما اللغة و هي الأداة الأهم فاتسقت بنحو خيالي ، شعري ، تأملي .
هذه الممازجة لا تعيب الرواية لكنها تجعل تصنيفها ملتبسا و هذا تجريب ذكي لأن الأهم هو إيصال روح العمل .
.
.
- الشخصية /أطوار الكائن :
تتمحور الرواية حول ديابلوس ، الكائن الذي مر بأطوار ثلاث ، الطور الأول و هو الانتظار حيث تتنظر الشخصية وعدا تؤمن به ، بعد التفرغ التام و التنسك الدائم المطلق المجرد في محراب حب الله ، و تظهر هنا شخصية ديابلوس تقطر بالحنان و تصفو على كل المكدرات النفسية .
الطور الثاني هو طور الصدمة حيث تختلف أسس و ملامح حياته و يخسر ابنته في مساومة بين البقاء في العالم التحتي و بين العروج إلى العالم العلوي / المكان الروائي .
و هنا تظهر بعض السمات الأخرى لشخصيته .
الطور الثالث و هو طور الكشف ، حيث تتجلى حقيقة الشخصية و يلتحم المتلقي مع الحدث / المألوف المعروف ، منبهرا بالتقنية المدهشة .
.
.
تُظهر الرواية انطلاق الكاتب من موروث عقدي ، لكن الاشتغال الناجح على الأدوات حوّل الرواية من مادة تقليدية إلى عمل تجريبي .
فقط تمنيت أن تكون الرواية بمستوى المتلقى العادي ، ذلك القارئ الذي لا يريد أن يغرق في إبهام شخصيات غير معرفة ، كـالذي لم يسبق له معرفة ابنة ديابلوس مثلا .
الرواية عموما مؤثرة و أشد ما جذبني الرمزية الذكية في البحث عن ( العلم الناقص ) تلك الكف ذات الأصابع الخمس .
روز تقرأ أيضا لـ باسمة الوزان :
.
.
للقصة تأثير عميق في مستقبلات الطفل ، و في سنواته الأولى إذ تتشكل ملامح شخصيته و تقوّم طباعة .
قصة روز تقرأ أيضا للأستاذة باسمة الوزان قصة جميلة التأثير ، و تقدّم فكرتين أساسيتين :
- أهمية القراءة .
- اتساع النظرة الإنسانية .
فالكاتبة تقدم للطفل التفاتة بليغة للإحساس بمن يعيشون حولنا من المهمشين أو الغير مُكترث لمعاناتهم ، حيث تسرد قصة العاملة روز القادمة من رحم التعب و الذي يسلبها القلق على ظروفها صفاء اللحظة ، فتفتح لها القراءة باب السلوى و الأمل .
.
.
بناء القصة :
أنشأت الكاتبة قصتها على البنية المشهدية و هذا الدارج في أدب الطفل ، فتميزت القصة بالحوارات الجميلة التي ترسم في فكر القارئ / الناشئ الحدث و الصورة و تُرفد له الرسالة .
.
.
هذه قصة مثرية لمكتبة الأسرة تنعطف بالقارئ لملاحظة تلك الزوايا المنسية من احتياجات من يُقاسمنا الحياة .
.
.
للقصة تأثير عميق في مستقبلات الطفل ، و في سنواته الأولى إذ تتشكل ملامح شخصيته و تقوّم طباعة .
قصة روز تقرأ أيضا للأستاذة باسمة الوزان قصة جميلة التأثير ، و تقدّم فكرتين أساسيتين :
- أهمية القراءة .
- اتساع النظرة الإنسانية .
فالكاتبة تقدم للطفل التفاتة بليغة للإحساس بمن يعيشون حولنا من المهمشين أو الغير مُكترث لمعاناتهم ، حيث تسرد قصة العاملة روز القادمة من رحم التعب و الذي يسلبها القلق على ظروفها صفاء اللحظة ، فتفتح لها القراءة باب السلوى و الأمل .
.
.
بناء القصة :
أنشأت الكاتبة قصتها على البنية المشهدية و هذا الدارج في أدب الطفل ، فتميزت القصة بالحوارات الجميلة التي ترسم في فكر القارئ / الناشئ الحدث و الصورة و تُرفد له الرسالة .
.
.
هذه قصة مثرية لمكتبة الأسرة تنعطف بالقارئ لملاحظة تلك الزوايا المنسية من احتياجات من يُقاسمنا الحياة .
دورة حياة المعايشة اليومية
قراءة في نص دائرة لـ مريم المدحوب :
القصة القصيرة فن أخاذ ، يعطي للقارئ تصورا ذو سعة رغم قصر حجم النص و محدوديته بالحدث الواحد المتنامي .
و أجمل القصص هي التي تغوص في ضجيج الحياة اليومية و تفتح أبواب البيوت و تحصد من جدرانها و حجراتها و دخائل سكانها ملامح الحياة المعاشة . فإذا كان فن سرد الواقعية السحرية خلابا و يرحل بالمتلقي إلى ضفاف الاكتشاف المبهر فإن سرد المدرسة الواقعية يضمّن صرخات الواقع و هموم و قضايا خبزنا اليومي .
و في نص مريم المدحوب دائرة ، نجد ملامح تلك الحياة - الدائرة - في كل بيت ، اقتسامات المآزم الداخلية بين رغبات المجتمع المستهلك و متاعب الكد و العمل و توفير صور المعيشة النابضة ببريق المادة .
و الجميل أن النص أعطى تلك الصورة بعفوية و دون تكلّف غرائبي مما شعرت به - كمتلقي - أنه القالب الأنسب لتقديم مثل هذه الحالة .
- العنوان :
الدائرة لفظة لها عدة مدلولات ، و كنص قصصي قصير تفتح مثل هذه العناوين المؤولة أبواب التخمين ، خصوصا و أن المتلقي سيجد العلاقة الوثيقة بين العنوان و النص في قفلة القصة .
فالدائرة توحي بممارساتنا اليومية ، أو بأمر يبدأ ثم يؤوب إلى نقطة البداية ، و هذا ما حققه النص .
كما تواجدت في النص أيضا مدلولات أخرى تعزز سلامة اختيار الناصة لهذا العنوان .
- الشخصيات :
اتكأ النص على شخصية واحدة ( الساردة زهور) ، رغم أنه يتضمن شخصية أخرى ( الزوج حسن ) ، إلا أن النص قام على الشخصية الأولى و انفعالاتها و علاقاتها تجاه الشخوص و الأشياء .
الشخصية هنا تأخذ ملامح الطابع العام لشريحة كبيرة في مجتمعنا الاستهلاكي ، و هي شخصية المرأة المتطلبة ، التي تسعى لمواكبة مظاهر الحياة الدائرة ، لكن المميز أن الناصة تقدم تلك الشخصية بكامل تضاريسها دون تسطيح وفق مفهوم ( الخير و الشر ) ، فلم تبالغ في جعلها امرأة أنانية و غير عابئة بظروف الحياة الاقتصادية لأسرتها و ذلك في كونها تتفهم الحالة في مآل القصة ، و لا تقدّمها بطريقة المرأة المثالية ( الزاهدة تماما ) وهو نموذج يندر وجوده .
الأهم أنها في تقديمها لشخصية ( مفهومة ) و تصعيد النص بذروة تخدم فكرة سامية و هي التفهم و التضحية تقدم الناصة هنا رسالتها بصورة مناسبة و مقبولة و متوافقة مع الفكرة الشمولية للعمل الصائب .
- اللغة :
جاءت لغة النص واضحة تماما مما يناسب المدرسة الواقعية ، و يناسب الحدث ، كما ضمنت الكاتبة الحوارات باللغة المحكية .
قراءة في نص دائرة لـ مريم المدحوب :
القصة القصيرة فن أخاذ ، يعطي للقارئ تصورا ذو سعة رغم قصر حجم النص و محدوديته بالحدث الواحد المتنامي .
و أجمل القصص هي التي تغوص في ضجيج الحياة اليومية و تفتح أبواب البيوت و تحصد من جدرانها و حجراتها و دخائل سكانها ملامح الحياة المعاشة . فإذا كان فن سرد الواقعية السحرية خلابا و يرحل بالمتلقي إلى ضفاف الاكتشاف المبهر فإن سرد المدرسة الواقعية يضمّن صرخات الواقع و هموم و قضايا خبزنا اليومي .
و في نص مريم المدحوب دائرة ، نجد ملامح تلك الحياة - الدائرة - في كل بيت ، اقتسامات المآزم الداخلية بين رغبات المجتمع المستهلك و متاعب الكد و العمل و توفير صور المعيشة النابضة ببريق المادة .
و الجميل أن النص أعطى تلك الصورة بعفوية و دون تكلّف غرائبي مما شعرت به - كمتلقي - أنه القالب الأنسب لتقديم مثل هذه الحالة .
- العنوان :
الدائرة لفظة لها عدة مدلولات ، و كنص قصصي قصير تفتح مثل هذه العناوين المؤولة أبواب التخمين ، خصوصا و أن المتلقي سيجد العلاقة الوثيقة بين العنوان و النص في قفلة القصة .
فالدائرة توحي بممارساتنا اليومية ، أو بأمر يبدأ ثم يؤوب إلى نقطة البداية ، و هذا ما حققه النص .
كما تواجدت في النص أيضا مدلولات أخرى تعزز سلامة اختيار الناصة لهذا العنوان .
- الشخصيات :
اتكأ النص على شخصية واحدة ( الساردة زهور) ، رغم أنه يتضمن شخصية أخرى ( الزوج حسن ) ، إلا أن النص قام على الشخصية الأولى و انفعالاتها و علاقاتها تجاه الشخوص و الأشياء .
الشخصية هنا تأخذ ملامح الطابع العام لشريحة كبيرة في مجتمعنا الاستهلاكي ، و هي شخصية المرأة المتطلبة ، التي تسعى لمواكبة مظاهر الحياة الدائرة ، لكن المميز أن الناصة تقدم تلك الشخصية بكامل تضاريسها دون تسطيح وفق مفهوم ( الخير و الشر ) ، فلم تبالغ في جعلها امرأة أنانية و غير عابئة بظروف الحياة الاقتصادية لأسرتها و ذلك في كونها تتفهم الحالة في مآل القصة ، و لا تقدّمها بطريقة المرأة المثالية ( الزاهدة تماما ) وهو نموذج يندر وجوده .
الأهم أنها في تقديمها لشخصية ( مفهومة ) و تصعيد النص بذروة تخدم فكرة سامية و هي التفهم و التضحية تقدم الناصة هنا رسالتها بصورة مناسبة و مقبولة و متوافقة مع الفكرة الشمولية للعمل الصائب .
- اللغة :
جاءت لغة النص واضحة تماما مما يناسب المدرسة الواقعية ، و يناسب الحدث ، كما ضمنت الكاتبة الحوارات باللغة المحكية .
بطولة الموت
تضمّن بعض الروايات فكرة الموت كمحور أساسي في الحبكة ، مما يجعل الرواية تقوم على مواجهة مستمرة مع شبحه ، بحيث يدس الكاتب في هيكل الرواية الموت كمؤثر عارض تقوم عليه مخاوف الشخصيات من ذلك العالم المجهول ، أو الترقّب الفزع لطريق المنون الغامض ،أو التأسي على راحل ، و هذا أمر مفهوم ، بحيث يجعل فكرة الموت مساعدة في إدارة عجلة الحكاية .
روايات أخرى كرّست بطولة الموت بصورة أكثر تركيزا ، بحيث ابتعدت عن الجانب المألوف في تقديمه ، و أزالت عناصر تقليدية و مألوفة تخصه : كالمفاجأة و الخوف و ألم الفقد ، و حوّرت حضور الموت بتقديمه بطريقة إبداعية و ملتفة على نمطيته، ثم أعطته بطولة مطلقة ، أو لنقل صار الموت ارتكاز الرواية و محركها الأساسي .
١/ عدسة على عالم الأموات في الدرك الأعلى لـ خالد النصرالله :
أجد أن رواية الدرك الأعلى لـ خالد النصرالله الصادرة عن نوفا بلس رواية متسعة و قابلة لإعطائك في كل قراءة بعدا جديدا ، و بغض النظر عن الجوانب الفنية الجميلة التي قدم الكاتب الرواية من خلالها ؛ كتقنية تعدد أصوات السرد ، أو كتضمين عدة رسائل على المستوى الإنساني : النفسي و العقدي و الاجتماعي أيضا و حتى هواجس الإنسان الكاتب و مخاضات إبداعه و إنتاجه ؛ نلاحظ أن الرواية بُنيت على ركيزة أساسية و هي عالم الرجل الميت الذي يبقى في " برزخ " بين الغياب المطلق و الحضور الآني لسبب ما .
و رغم أن فكرة " الغياب المؤجل " قد وردت في بعض المواد المرئية و المسوعة ، فكرة الميت الذي لا يستقر في عالمه الأخير حتى يُنجز مهمة معلقة أو يسدد دينا ما ، و أذكر في هذا الصدد قصة من المكتبة الخضراء بعنوان الرفيق المجهول حوت نفس الفكرة ، إلا أن الكاتب في رواية الدرك الأعلى تجاوز هذه التقليدية في رسم عالم " الرجل الميت " ، و وظف الكثير من اشتغال المخيلة تأثيث ذلك العالم فلم يفرط - كما المعتاد- في التركيز على المهمة أو المانع لانتقال الرجل الميت إلى المحطة الأخيرة بل حرص على " اقناع " المتلقي بسرد متمكن الأدوات بأنه يعاين فعلا عالما جديدا بشخوصه و حواراته .
فنجد أن شخصية " الرجل الميت " :
- تستذكر
- تعاين
- تلتقي بأشباهها المحصورين في قنطرة الانتظار
- تكتشف جديدا عن عالم الموت الملغز
و ما أريد قوله هو أن تلك منطقة جديدة من مناطق الموت يقودنا إليها الكاتب عبر اشتغال متقن و مقنع و متفق مع كل مكونات الرواية .
٢/ مواجهات مستمرة مع الموت في عائشة تنزل للعالم السفلي لـ بثينة العيسى :
بثينة العيسى في روايتها المميزة عائشة تنزل للعالم السفلي تقدم بعدا فلسفيا مختلفا للمواجهات المستمرة مع موت يتراوح بين منطقتي :
القبول و الرفض .
و هذه الرواية تقوم أيضا على الموت محركا أساسيا لاتدور عجلة الرواية دونه .
فـ عائشة- شخصية النص- امرأة ثكلى تلامس الموت في كل ذكرى تعود ليوم وفاة ابنها ذي الأعوام الخميس و تتجسد لها كل علامات " نزع الروح " إن وفق التعبير ، فيكون الموت بتوليفة عدائيته و ألفته ضيف و لص يعاود الحضور في حياة عائشة فيسلبها رائحة البال لدرجة أنها تتمنى يوما أن تكون كامرأة طبيعية تتعامل مع الزوج و الأهل بتلقائية دون السقوط في حُفر : الكآبة و الإحساس بالتقصير في حق الطفل الراحل و القلق مما سيأتي به حضور الموت في كل مرة .
من المميز في الرواية أن الكاتبة طعمت النص بفصول شديدة الاشتغال التجريدي ، و أخذت بالقارئ إلى مناطق مدهشة لتتسع ذائقته ، فيتعرف الموت من خلال خيال الكاتبة و أساطير الثقافات الأخرى مما شكل في الرواية وجوها أخرى متراوحة بين المدرسة الواقعية و الواقعية السحرية ، و كل ذلك في تمازج محكم متناسق يقنص كل وعي المتلقي و يحيله إلى كائن شديد الالتصاق بشخصية الرواية .
٣/ الموت مضخة الحياة في رواية تراب لـ حسين المطوع :
رواية تراب للكاتب حسين المطوع رواية مربكة و متعبة ، لأنها تغوص بعمق في أشياء الإنسان و تقلباته و ما يمكن أن يصدر منه لأي هدف ، و أعتقد أن الذكاء السردي للكاتب و الذي قدّم روايته - كمساحة كبيرة منها - من خلال الفصول المشهدية التي تحيل المتلقي للفهم من خلال حوار الشخصيات و الذي أعتقده آلية كشف .
تراب نموذج آخر لهيمنة الموت على مكونات الرواية ، فالموت في تلك القرية المأزومة هو - بكل غرابة - باب الازدهار و محور الأحداث !
و إذا كانت رواية انقطاعات الموت لـ سرماغو تصف حال قرية غاب عنها الموت فإن رواية تراب هي النقيض لها تماما ، و الحقيقة أجد أن النقيض يبدي جمال النقيض .
رواية تراب تقدّم الموت من خلال نظرة الشخصية الأساسية ( فهد ) حافر القبور بصورة مختلفة عن المألوف ، صورة طاغية ، مشتهاة ، يسعى إليها البطل ، و يكرّسها من خلال كل سكناته و حركاته و خطراته ، نجد ( فهد ) أحيانا يفرح بقنائص الموت الجاهزة و أحيانا أخرى يرتب الضحايا للقاء الأخير .
تضمّن بعض الروايات فكرة الموت كمحور أساسي في الحبكة ، مما يجعل الرواية تقوم على مواجهة مستمرة مع شبحه ، بحيث يدس الكاتب في هيكل الرواية الموت كمؤثر عارض تقوم عليه مخاوف الشخصيات من ذلك العالم المجهول ، أو الترقّب الفزع لطريق المنون الغامض ،أو التأسي على راحل ، و هذا أمر مفهوم ، بحيث يجعل فكرة الموت مساعدة في إدارة عجلة الحكاية .
روايات أخرى كرّست بطولة الموت بصورة أكثر تركيزا ، بحيث ابتعدت عن الجانب المألوف في تقديمه ، و أزالت عناصر تقليدية و مألوفة تخصه : كالمفاجأة و الخوف و ألم الفقد ، و حوّرت حضور الموت بتقديمه بطريقة إبداعية و ملتفة على نمطيته، ثم أعطته بطولة مطلقة ، أو لنقل صار الموت ارتكاز الرواية و محركها الأساسي .
١/ عدسة على عالم الأموات في الدرك الأعلى لـ خالد النصرالله :
أجد أن رواية الدرك الأعلى لـ خالد النصرالله الصادرة عن نوفا بلس رواية متسعة و قابلة لإعطائك في كل قراءة بعدا جديدا ، و بغض النظر عن الجوانب الفنية الجميلة التي قدم الكاتب الرواية من خلالها ؛ كتقنية تعدد أصوات السرد ، أو كتضمين عدة رسائل على المستوى الإنساني : النفسي و العقدي و الاجتماعي أيضا و حتى هواجس الإنسان الكاتب و مخاضات إبداعه و إنتاجه ؛ نلاحظ أن الرواية بُنيت على ركيزة أساسية و هي عالم الرجل الميت الذي يبقى في " برزخ " بين الغياب المطلق و الحضور الآني لسبب ما .
و رغم أن فكرة " الغياب المؤجل " قد وردت في بعض المواد المرئية و المسوعة ، فكرة الميت الذي لا يستقر في عالمه الأخير حتى يُنجز مهمة معلقة أو يسدد دينا ما ، و أذكر في هذا الصدد قصة من المكتبة الخضراء بعنوان الرفيق المجهول حوت نفس الفكرة ، إلا أن الكاتب في رواية الدرك الأعلى تجاوز هذه التقليدية في رسم عالم " الرجل الميت " ، و وظف الكثير من اشتغال المخيلة تأثيث ذلك العالم فلم يفرط - كما المعتاد- في التركيز على المهمة أو المانع لانتقال الرجل الميت إلى المحطة الأخيرة بل حرص على " اقناع " المتلقي بسرد متمكن الأدوات بأنه يعاين فعلا عالما جديدا بشخوصه و حواراته .
فنجد أن شخصية " الرجل الميت " :
- تستذكر
- تعاين
- تلتقي بأشباهها المحصورين في قنطرة الانتظار
- تكتشف جديدا عن عالم الموت الملغز
و ما أريد قوله هو أن تلك منطقة جديدة من مناطق الموت يقودنا إليها الكاتب عبر اشتغال متقن و مقنع و متفق مع كل مكونات الرواية .
٢/ مواجهات مستمرة مع الموت في عائشة تنزل للعالم السفلي لـ بثينة العيسى :
بثينة العيسى في روايتها المميزة عائشة تنزل للعالم السفلي تقدم بعدا فلسفيا مختلفا للمواجهات المستمرة مع موت يتراوح بين منطقتي :
القبول و الرفض .
و هذه الرواية تقوم أيضا على الموت محركا أساسيا لاتدور عجلة الرواية دونه .
فـ عائشة- شخصية النص- امرأة ثكلى تلامس الموت في كل ذكرى تعود ليوم وفاة ابنها ذي الأعوام الخميس و تتجسد لها كل علامات " نزع الروح " إن وفق التعبير ، فيكون الموت بتوليفة عدائيته و ألفته ضيف و لص يعاود الحضور في حياة عائشة فيسلبها رائحة البال لدرجة أنها تتمنى يوما أن تكون كامرأة طبيعية تتعامل مع الزوج و الأهل بتلقائية دون السقوط في حُفر : الكآبة و الإحساس بالتقصير في حق الطفل الراحل و القلق مما سيأتي به حضور الموت في كل مرة .
من المميز في الرواية أن الكاتبة طعمت النص بفصول شديدة الاشتغال التجريدي ، و أخذت بالقارئ إلى مناطق مدهشة لتتسع ذائقته ، فيتعرف الموت من خلال خيال الكاتبة و أساطير الثقافات الأخرى مما شكل في الرواية وجوها أخرى متراوحة بين المدرسة الواقعية و الواقعية السحرية ، و كل ذلك في تمازج محكم متناسق يقنص كل وعي المتلقي و يحيله إلى كائن شديد الالتصاق بشخصية الرواية .
٣/ الموت مضخة الحياة في رواية تراب لـ حسين المطوع :
رواية تراب للكاتب حسين المطوع رواية مربكة و متعبة ، لأنها تغوص بعمق في أشياء الإنسان و تقلباته و ما يمكن أن يصدر منه لأي هدف ، و أعتقد أن الذكاء السردي للكاتب و الذي قدّم روايته - كمساحة كبيرة منها - من خلال الفصول المشهدية التي تحيل المتلقي للفهم من خلال حوار الشخصيات و الذي أعتقده آلية كشف .
تراب نموذج آخر لهيمنة الموت على مكونات الرواية ، فالموت في تلك القرية المأزومة هو - بكل غرابة - باب الازدهار و محور الأحداث !
و إذا كانت رواية انقطاعات الموت لـ سرماغو تصف حال قرية غاب عنها الموت فإن رواية تراب هي النقيض لها تماما ، و الحقيقة أجد أن النقيض يبدي جمال النقيض .
رواية تراب تقدّم الموت من خلال نظرة الشخصية الأساسية ( فهد ) حافر القبور بصورة مختلفة عن المألوف ، صورة طاغية ، مشتهاة ، يسعى إليها البطل ، و يكرّسها من خلال كل سكناته و حركاته و خطراته ، نجد ( فهد ) أحيانا يفرح بقنائص الموت الجاهزة و أحيانا أخرى يرتب الضحايا للقاء الأخير .
حدائقهن المعلقة لـ د نجمة إدريس :
رواية المكان و الوجوه و الأماني و نبش الذات .
عند قراءتي لـ رواية حدائقهن المعلقة لـ د نجمة إدريس و الصادرة عن دار الآداب ، و عند تقليبي للصفحات و التوقف عند السطور ، كنت أحدّث نفسي أن هذه الرواية تشبه تحليقا مديدا ، سخيا و محببا .
و رغم أنها لا تشبه أية رواية قرأتها سلفا - أنا التي أقرأ في الشهر نحو ٦ روايات - إلا أن هذه الرواية تشبه الحياة ، أو لنقل أنها ترسم حيوات متقاطعة ، و متداخلة باحترافية و صدق و إقناع يُرضخ تمرد القارئ و يستجلب إقراره .
و عندما فكرت بعد أن أرحت دفتي الرواية عن أبرز سمة شدتني فيها ، فكرت أن الإجابة هي كل مافيها ، رغم أنها تعتبر من الروايات المعتنية بتفاصيل التفاصيل و التي قد يجدها البعض مثقلة للنص السردي ، إلا أني شعرت أن التفاصيل كانت متناغمة و مكون أساسي لروح العمل .
و ربما أوضحت الكاتبة - منال - و هي إحدى شخصيات الرواية و التي قُدمت كناصة فعلية في حيلة روائية متوقدة و بليغة أن التفاصيل في هذا السرد هي نقاط مضيئة تومض في غبش الأسئلة ، و ترسم ملامح ديناميكية حية للمكان و الشخوص .
-الأماكن : موائل و أوطان مستعارة .
رغم أن مدينة لندن هي المحتضنة للأحداث الأبرز في الرواية ، و المكان الذي منه و إليه يولد السرد و يؤول ، إلى أن الرواية أخذت بالمتلقي إلى أماكن عدة كان لها ملمحا خاصا في التصور .
لقد سافر المتلقي إلى أربد و الزرقاء مع سهام ، و إلى مصر و الكويت و العراق و جدة و ليبيا ، كانت الأمكنة تتضافر لتشكل وجه وطن الروح الكبير بجراحه و هناءاته و ذكرياته ، و تتصير - حسب أحساسيس شخصية المحور السردي - إلى بيئة أليفة أو طاردة ، فسهام على سبيل المثال تعود من غربة لندن إلى أُلفة الوطن فتتبلل الأشياء و تتداخل ، فتصير الغربة هي الوطن ، و الشقة الساكنة في المهجر و منمنماتها و مافيها من حِسّ الأصدقاء هي المرفأ بينما يصير بيت الطفولة موحشا تغيم فيه الذات و تذوب مع ساكنيه .
و أعتقد أن الكاتبة ترسخ من خلال هذه التركيبة السردية فكرة أن الأشياء تتشكل كما نراها نحن .
-الشخصيات : نسيج العوالم الإنسانية .
الرواية مرصعة بشخصيات عديدة ، ركائزية كـ سهام و منال و متشعبة كـ نجوى و سميحة و هشام و عبد المنعم و أروى و يوسف ، و رمزية كـ ياسر ، و هامشية كـ آية . و هذه الشخصيات على سبيل المثال لا الحصر في النص ، ذلك أن الرواية ضاجة بالشخصيات بالفعل .
و بقراءة مركزة وجدت أن كل شخصية كانت تعطي بُعدا إنسانيا يُستوقف ، و لا يمكن أن يتم عبوره دون شهقة دهشة ، حتى تلك الشخصيات التي حضرت سريعا كزوجة أب منال أو إخوتها الذين ذكروا بسطر واحد لكنه كشف عن سماتهم المهمة ، لقد تمخضت الرواية عن مجتمع إنساني مديد و اشتغلت على كشف دخائلهم عبر حوارات جوانية و برانية ، و نبشت في ذواتهم ، ما هم عليه و ما يظنونه بأنفسهم و ما يريدون ، هذا المجتمع القريب جدا من الشمولية يجعلني أؤكد أن ما من قارئ إلا ووجد عبر هذا النص مرآة ما عكست ملامحه أو جزءا منها .
و على سبيل المثال أيضا أتعرض لشخصية سهام ، المرأة التي صار التفاني هو حجر الزاوية في شخصيتها ، و التي تجد في خدمة الآخرين و تلبية احتياجاتهم لذة و سكينة ، و تجد في روحها متسعا دائما للتجاوز عن الأخطاء و المعذرة ، كما أنها المقربة من الجميع ، و التي تجيد - بمهارة النفاذ إلى أعماقهم - تهدئة حتى المتمردين منهم مثل آية .
مثل هذه الشخصية قد تُسقط الناص في فخ الرسم المثالي لشخصية قلما توجد ، وقد تترك القارئ في حالة عدم اقتناع ، لكن هنا في حدائقهن المعلقة كانت شخصية سهام حقيقية جدا ، مقنعة و من لحم و دم ، نافذة إلى أعمق أعماق المتلقي ليصدق وجودها .
و بجانب هذه الشخصية نجد شخصية منال ، التي قُدمت عبر ضفتين ، منال الطالبة الكويتية المغتربة في لندن ، و منال الكاتبة التي تتواصل مع سهام مراسلة للغرف من مؤونة الذكريات و كتابة الرواية ، بالطبع الشخصيتين مقدمتان كشخصية واحدة ، لكن منال الكاتبة تعترف أنها حورت الكثير من الشخصيات و تدخلت بالأحداث ، و كما تتطرق سهام في معرض الحديث عن ياسر العراقي الأديب و الثائر في رسالتها إلى منال و تنوه إلى احتمالية كونه مجرد طيف أو رمز لشريحة كبرى من الثائرين .
و من الملاحظ أيضا أن الفصول التي سردت الأحداث الملتصقة بمنال أتت بسرد الراوي العليم و لم تأت بتقنية تيار الوعي مما يعزز نظرية الفصل بين الشخصيتين أو يضع بعض الحدود .
لكن ما استوقفني هو تصرف منال في موقفين ، منال الشخصية بالطبع ، و جعلني أدقق في المثال الذي تقدمه الناصة .
الموقف الأول - و الذي لم أتفهمه - هو تغييرها لإسم ياسر أعظمي المذيل لمقالته ، هذا التصرف و إن بدا منها بدافع الحرص إلا أنه غير مفهوم و مستغرب .
رواية المكان و الوجوه و الأماني و نبش الذات .
عند قراءتي لـ رواية حدائقهن المعلقة لـ د نجمة إدريس و الصادرة عن دار الآداب ، و عند تقليبي للصفحات و التوقف عند السطور ، كنت أحدّث نفسي أن هذه الرواية تشبه تحليقا مديدا ، سخيا و محببا .
و رغم أنها لا تشبه أية رواية قرأتها سلفا - أنا التي أقرأ في الشهر نحو ٦ روايات - إلا أن هذه الرواية تشبه الحياة ، أو لنقل أنها ترسم حيوات متقاطعة ، و متداخلة باحترافية و صدق و إقناع يُرضخ تمرد القارئ و يستجلب إقراره .
و عندما فكرت بعد أن أرحت دفتي الرواية عن أبرز سمة شدتني فيها ، فكرت أن الإجابة هي كل مافيها ، رغم أنها تعتبر من الروايات المعتنية بتفاصيل التفاصيل و التي قد يجدها البعض مثقلة للنص السردي ، إلا أني شعرت أن التفاصيل كانت متناغمة و مكون أساسي لروح العمل .
و ربما أوضحت الكاتبة - منال - و هي إحدى شخصيات الرواية و التي قُدمت كناصة فعلية في حيلة روائية متوقدة و بليغة أن التفاصيل في هذا السرد هي نقاط مضيئة تومض في غبش الأسئلة ، و ترسم ملامح ديناميكية حية للمكان و الشخوص .
-الأماكن : موائل و أوطان مستعارة .
رغم أن مدينة لندن هي المحتضنة للأحداث الأبرز في الرواية ، و المكان الذي منه و إليه يولد السرد و يؤول ، إلى أن الرواية أخذت بالمتلقي إلى أماكن عدة كان لها ملمحا خاصا في التصور .
لقد سافر المتلقي إلى أربد و الزرقاء مع سهام ، و إلى مصر و الكويت و العراق و جدة و ليبيا ، كانت الأمكنة تتضافر لتشكل وجه وطن الروح الكبير بجراحه و هناءاته و ذكرياته ، و تتصير - حسب أحساسيس شخصية المحور السردي - إلى بيئة أليفة أو طاردة ، فسهام على سبيل المثال تعود من غربة لندن إلى أُلفة الوطن فتتبلل الأشياء و تتداخل ، فتصير الغربة هي الوطن ، و الشقة الساكنة في المهجر و منمنماتها و مافيها من حِسّ الأصدقاء هي المرفأ بينما يصير بيت الطفولة موحشا تغيم فيه الذات و تذوب مع ساكنيه .
و أعتقد أن الكاتبة ترسخ من خلال هذه التركيبة السردية فكرة أن الأشياء تتشكل كما نراها نحن .
-الشخصيات : نسيج العوالم الإنسانية .
الرواية مرصعة بشخصيات عديدة ، ركائزية كـ سهام و منال و متشعبة كـ نجوى و سميحة و هشام و عبد المنعم و أروى و يوسف ، و رمزية كـ ياسر ، و هامشية كـ آية . و هذه الشخصيات على سبيل المثال لا الحصر في النص ، ذلك أن الرواية ضاجة بالشخصيات بالفعل .
و بقراءة مركزة وجدت أن كل شخصية كانت تعطي بُعدا إنسانيا يُستوقف ، و لا يمكن أن يتم عبوره دون شهقة دهشة ، حتى تلك الشخصيات التي حضرت سريعا كزوجة أب منال أو إخوتها الذين ذكروا بسطر واحد لكنه كشف عن سماتهم المهمة ، لقد تمخضت الرواية عن مجتمع إنساني مديد و اشتغلت على كشف دخائلهم عبر حوارات جوانية و برانية ، و نبشت في ذواتهم ، ما هم عليه و ما يظنونه بأنفسهم و ما يريدون ، هذا المجتمع القريب جدا من الشمولية يجعلني أؤكد أن ما من قارئ إلا ووجد عبر هذا النص مرآة ما عكست ملامحه أو جزءا منها .
و على سبيل المثال أيضا أتعرض لشخصية سهام ، المرأة التي صار التفاني هو حجر الزاوية في شخصيتها ، و التي تجد في خدمة الآخرين و تلبية احتياجاتهم لذة و سكينة ، و تجد في روحها متسعا دائما للتجاوز عن الأخطاء و المعذرة ، كما أنها المقربة من الجميع ، و التي تجيد - بمهارة النفاذ إلى أعماقهم - تهدئة حتى المتمردين منهم مثل آية .
مثل هذه الشخصية قد تُسقط الناص في فخ الرسم المثالي لشخصية قلما توجد ، وقد تترك القارئ في حالة عدم اقتناع ، لكن هنا في حدائقهن المعلقة كانت شخصية سهام حقيقية جدا ، مقنعة و من لحم و دم ، نافذة إلى أعمق أعماق المتلقي ليصدق وجودها .
و بجانب هذه الشخصية نجد شخصية منال ، التي قُدمت عبر ضفتين ، منال الطالبة الكويتية المغتربة في لندن ، و منال الكاتبة التي تتواصل مع سهام مراسلة للغرف من مؤونة الذكريات و كتابة الرواية ، بالطبع الشخصيتين مقدمتان كشخصية واحدة ، لكن منال الكاتبة تعترف أنها حورت الكثير من الشخصيات و تدخلت بالأحداث ، و كما تتطرق سهام في معرض الحديث عن ياسر العراقي الأديب و الثائر في رسالتها إلى منال و تنوه إلى احتمالية كونه مجرد طيف أو رمز لشريحة كبرى من الثائرين .
و من الملاحظ أيضا أن الفصول التي سردت الأحداث الملتصقة بمنال أتت بسرد الراوي العليم و لم تأت بتقنية تيار الوعي مما يعزز نظرية الفصل بين الشخصيتين أو يضع بعض الحدود .
لكن ما استوقفني هو تصرف منال في موقفين ، منال الشخصية بالطبع ، و جعلني أدقق في المثال الذي تقدمه الناصة .
الموقف الأول - و الذي لم أتفهمه - هو تغييرها لإسم ياسر أعظمي المذيل لمقالته ، هذا التصرف و إن بدا منها بدافع الحرص إلا أنه غير مفهوم و مستغرب .
الموقف الثاني يتمثل في اندماجها مع المجتمع بصورة طيعة ، و هي التي لم تظهر عليها خلال الرواية مظاهر التبعية ، لكنها حين تعود من الغربة ، تذوب في الطابع العام لبيت الدسمة ، و تسير بمسالك المجتمع المقررة و المرسومة سلفا ، و ترتدي ما يقرره .
الحقيقة أن الموقفين يجعلان من منال شخصية واقعية جدا نصادفها كثيرا في حياتنا و إن بدت غير مفهومة .
-اللغة : أجنحة الوصل .
قدّمت الرواية بلغة مبهرة ، استوقفني مرارا ، و مرارا، و حلقت بي عبر كون من التشابيه و المفردات و التراكيب البليغة و السخية التأثير .
ومما يلتفت إليه أيضا أن الرواية قُدمت من خلال السرد و الرسالة بتعاضد جميل يخدم سير الأحداث و الفكرة .
حدائقهن المعلقة عمل بديع ، أحببت جدا الانغماس بروحه .
الحقيقة أن الموقفين يجعلان من منال شخصية واقعية جدا نصادفها كثيرا في حياتنا و إن بدت غير مفهومة .
-اللغة : أجنحة الوصل .
قدّمت الرواية بلغة مبهرة ، استوقفني مرارا ، و مرارا، و حلقت بي عبر كون من التشابيه و المفردات و التراكيب البليغة و السخية التأثير .
ومما يلتفت إليه أيضا أن الرواية قُدمت من خلال السرد و الرسالة بتعاضد جميل يخدم سير الأحداث و الفكرة .
حدائقهن المعلقة عمل بديع ، أحببت جدا الانغماس بروحه .
ما تخلقه الفكرة
قراءة في نص : في رأسه حكاية لـ حسين المتروك
تبقى النصوص المشتبكة مع المعاناة الإنسانية ذات تأثير مكثف في التلقي ، ذلك أنها تنفذ إلى تلك المنطقة المشتركة في ذاكرة الوجع الإنساني ، مما يجعل النص القائم على تلك الدعامة نصا قريبا ، و متقاطعا مع عدة حيوات .
هذه النصوص التي ترصد دواخل الذات و انكساراتها و انعطافاتها من أدق النصوص لكن الركيزة الأهم و التي تصنع الفارق هي كيفية تقديمها .
يقدم الكاتب حسين المتروك في نص : في رأسه حكاية نوعا من المعاناة المتوالدة ، الناشئة من جذر عميق في الطفولة ، و المتزايدة كعوالم ناشئة و متداخلة تبدأ من نقطة و لا تلبث أن تتكاثف ، النص قصة من مدرسة اللاوعي ، و يقوم على تقنية السرد المشهدي و إن خلا من الحوار ، و يحتاج لأكثر من قراءة لتتبع المسار السردي و الخلاص إلى ترسيخ الفكرة .
-العنوان مفتاح لمعرفة الشخصية :
يقدم لنا العنوان العتبة الأولى لفهم النص و التعالق معه ، ذلك أنه يمرر فكرة أن كل ما يدور في هذا النص ناشئ عن حكاية في رأس - ذهن - شخصية النص ، هذا اللاوعي الضاج بالصور و المعاناة ، و نزف الذاكرة البكر ، يصنع تلقائيا عوالم عدة ، تخرج بالشخصية من البيت ، و الطفولة المعنفة إلى المدرسة ، و إلى ألم الصفعات ، و المشاهد الأخرى التي تؤكد تأزم الشخصية .
فالناص هنا يعطينا مفتاح البدء ، و يترك " اطمئنان " التلقى لترجيح القارئ و تأويله .
ففي القراءة الأولى عرفت أن الشخصية تعرضت و تتعرض للتعنيف ، وهذا العنف من بيئة الأمان الأقرب ، من الأسرة ، و من الأم تحديدا و إن لم يذكرها الكاتب بالتحديد إلا أنه اتكأ على تقديم مظاهر وجودها .
و فهمت أن هذه الشخصية ترتبك في التحصيل الدراسي ، و في العلاقات الإجتماعية .
لكن القراءة الثانية أعطاني النص تلقيا جديدا ، و أعتقد أن العنوان ساعد في ذلك ، و خصوصا لو عززنا فكرة القفلة ، فطرحت السؤال : ماذا لو كانت كل تلك المواقف المأزومة التي تمر بها الشخصية - في المدرسة- عبارة عن إفرازات عدائية لـ طفولته القاسية ؟ ماذا لو كان بطلنا يتعامل مع بيئة الحكاية بتوجس فيحصد الضحك و الضربات ، ماذا لو كان يحب و يجيد دور الضحية ؟
ماذا لو كان تجاهل الأستاذ له ضربا من التخيلات ؟
ماذا لو كانت كل تلك الحكايا " في رأسه ؟ "
-هيكل النص :
رُتب النص بصورة فقرات منفصلة " مشاهد " ، و شعرت أن هذا الترتيب نجح في إعطاء المتلقي صورة شمولية لأكثر من موقف ، خصوصا و إن نظرنا إلى آلية تقديم النص و اتكائه على الصور الديناميكية الحركية دون التسلل إلى دواخل الشخصية ، فنحن لم نعرف كيف يشعر البطل إلا من خلال هذا السرد الحركي ، لذا صار هنالك تضافر بين اللغة و التقسيم العام للنص ، و لو كان النص قد قُسّم دون هذه الموازنة لكان التقسيم عبثيا ، خصوصا مع ملاحظة ثبات خط الزمان و المكان .
-الأم بذرة الشقاء الأولى :
حين يخرج الكاتب من خط النمطية في السرد الإنساني ، و حين يعجن المعاناة من غير المألوف يقع في مأزق ما لم يعزز نصه بالإقناع و تكامل الأدوات .
نحن هنا نواجه حِصار الوجع ، الانهزام ، العدائية ، و أكثر عبر شخصية شربت المحنة من منبع غير مألوف ، و هو الأم .
يخرق الكاتب هنا صورة الأم النمطية ، و يخرج بتركيب مختلف لها ليستحيل منبع الأمان المفترض إلى مشرب التوحش ، يقول الناص :
" تراءت له ، وهيَ ترفَع النِعال في وجهه، خَسِرَ مُجدداً، لم يَعد قادراً على مواصلة الانتباه، وصل إلى نقطة الوِلادة مُجدداً. صُفِع."
و يقول أيضا :
"كانت تُخبره بأنّ الضَحك ممنوع، فكُل شيء في هذه الحياة جاد لا يقبل الضحك"
قد تفترض قراءة ما أننا نواجه هنا زوجة أب ، أو أية مربية أخرى ، لكن بعض المفاتيح تقودنا لتأكيد أن هذه الشخصية هي الأم البيلوجية ، منها ما تقدّم ، و منها ما يفرضه اهتزاز الشخصية و انهزاميتها .
و أجد أن النص كان دقيقا في تهيئة صورة هذه الأم الشرسة في المخيلة دون استخدام تقنية " إرغام القارئ " بالتصديق ، و دون استخدام البكائيات المستهلكة .
قراءة في نص : في رأسه حكاية لـ حسين المتروك
تبقى النصوص المشتبكة مع المعاناة الإنسانية ذات تأثير مكثف في التلقي ، ذلك أنها تنفذ إلى تلك المنطقة المشتركة في ذاكرة الوجع الإنساني ، مما يجعل النص القائم على تلك الدعامة نصا قريبا ، و متقاطعا مع عدة حيوات .
هذه النصوص التي ترصد دواخل الذات و انكساراتها و انعطافاتها من أدق النصوص لكن الركيزة الأهم و التي تصنع الفارق هي كيفية تقديمها .
يقدم الكاتب حسين المتروك في نص : في رأسه حكاية نوعا من المعاناة المتوالدة ، الناشئة من جذر عميق في الطفولة ، و المتزايدة كعوالم ناشئة و متداخلة تبدأ من نقطة و لا تلبث أن تتكاثف ، النص قصة من مدرسة اللاوعي ، و يقوم على تقنية السرد المشهدي و إن خلا من الحوار ، و يحتاج لأكثر من قراءة لتتبع المسار السردي و الخلاص إلى ترسيخ الفكرة .
-العنوان مفتاح لمعرفة الشخصية :
يقدم لنا العنوان العتبة الأولى لفهم النص و التعالق معه ، ذلك أنه يمرر فكرة أن كل ما يدور في هذا النص ناشئ عن حكاية في رأس - ذهن - شخصية النص ، هذا اللاوعي الضاج بالصور و المعاناة ، و نزف الذاكرة البكر ، يصنع تلقائيا عوالم عدة ، تخرج بالشخصية من البيت ، و الطفولة المعنفة إلى المدرسة ، و إلى ألم الصفعات ، و المشاهد الأخرى التي تؤكد تأزم الشخصية .
فالناص هنا يعطينا مفتاح البدء ، و يترك " اطمئنان " التلقى لترجيح القارئ و تأويله .
ففي القراءة الأولى عرفت أن الشخصية تعرضت و تتعرض للتعنيف ، وهذا العنف من بيئة الأمان الأقرب ، من الأسرة ، و من الأم تحديدا و إن لم يذكرها الكاتب بالتحديد إلا أنه اتكأ على تقديم مظاهر وجودها .
و فهمت أن هذه الشخصية ترتبك في التحصيل الدراسي ، و في العلاقات الإجتماعية .
لكن القراءة الثانية أعطاني النص تلقيا جديدا ، و أعتقد أن العنوان ساعد في ذلك ، و خصوصا لو عززنا فكرة القفلة ، فطرحت السؤال : ماذا لو كانت كل تلك المواقف المأزومة التي تمر بها الشخصية - في المدرسة- عبارة عن إفرازات عدائية لـ طفولته القاسية ؟ ماذا لو كان بطلنا يتعامل مع بيئة الحكاية بتوجس فيحصد الضحك و الضربات ، ماذا لو كان يحب و يجيد دور الضحية ؟
ماذا لو كان تجاهل الأستاذ له ضربا من التخيلات ؟
ماذا لو كانت كل تلك الحكايا " في رأسه ؟ "
-هيكل النص :
رُتب النص بصورة فقرات منفصلة " مشاهد " ، و شعرت أن هذا الترتيب نجح في إعطاء المتلقي صورة شمولية لأكثر من موقف ، خصوصا و إن نظرنا إلى آلية تقديم النص و اتكائه على الصور الديناميكية الحركية دون التسلل إلى دواخل الشخصية ، فنحن لم نعرف كيف يشعر البطل إلا من خلال هذا السرد الحركي ، لذا صار هنالك تضافر بين اللغة و التقسيم العام للنص ، و لو كان النص قد قُسّم دون هذه الموازنة لكان التقسيم عبثيا ، خصوصا مع ملاحظة ثبات خط الزمان و المكان .
-الأم بذرة الشقاء الأولى :
حين يخرج الكاتب من خط النمطية في السرد الإنساني ، و حين يعجن المعاناة من غير المألوف يقع في مأزق ما لم يعزز نصه بالإقناع و تكامل الأدوات .
نحن هنا نواجه حِصار الوجع ، الانهزام ، العدائية ، و أكثر عبر شخصية شربت المحنة من منبع غير مألوف ، و هو الأم .
يخرق الكاتب هنا صورة الأم النمطية ، و يخرج بتركيب مختلف لها ليستحيل منبع الأمان المفترض إلى مشرب التوحش ، يقول الناص :
" تراءت له ، وهيَ ترفَع النِعال في وجهه، خَسِرَ مُجدداً، لم يَعد قادراً على مواصلة الانتباه، وصل إلى نقطة الوِلادة مُجدداً. صُفِع."
و يقول أيضا :
"كانت تُخبره بأنّ الضَحك ممنوع، فكُل شيء في هذه الحياة جاد لا يقبل الضحك"
قد تفترض قراءة ما أننا نواجه هنا زوجة أب ، أو أية مربية أخرى ، لكن بعض المفاتيح تقودنا لتأكيد أن هذه الشخصية هي الأم البيلوجية ، منها ما تقدّم ، و منها ما يفرضه اهتزاز الشخصية و انهزاميتها .
و أجد أن النص كان دقيقا في تهيئة صورة هذه الأم الشرسة في المخيلة دون استخدام تقنية " إرغام القارئ " بالتصديق ، و دون استخدام البكائيات المستهلكة .
الإنعكاس و التأويل
ملاحقة أحجية ابن أزرق في رواية حمام الدار لـ سعود السنعوسي
إنها فعلا أحجية ، رواية تبدأ من حيث تنتهي و تنتهي من حيث تبدأ ، تعتقد في بدايتها أنك ستدخل عالم رواية جميلة ترشح منها هموم الكتابة ، و مكابدات كاتب يروم إنهاء مخطوطه ، و تقرر أنك ستعاين تجربة جديدة ذات بعد روائي مركب قد لا يمت لهموم الإنسان اليومية بقدر ما يعرض قلقا خاصا ، لكنك بعد ذلك تكتشف أن الناص يُتيهك – متعمدا – في عالم روائي تجريبي لتلاحق مُمكنات الرواية و مكوناتها و تُحبس بالدهشة .
رواية حمام الدار / أحجية بن أزرق للكاتب سعود السنعوسي و الصادرة عن الدار العربية للعلوم رواية جدلية ، قد يجدها البعض مختلفة عن نِتاج الناص السابق ، و مغايرة عما يُنشر من روايات ، و بكل صدق أجدها علامة فارقة في خط سير الكاتب ، ذلك أن هذا العمل أظهر الذكاء السردي الفائق للكاتب و بيّن بجلاء عنايته بالتفاصيل و بكل كلمة و تركيب و حدث تضّمنه العمل ، و أكّد أن مامن سطر عبثي في رواية تُخايل المتلقي و تراوغه سطورها و تضطره لتكرار استنطاقها ، و أن عليك التقاط كل كلمة لتعبر إلى ما يمكن إدراكه منها .
لا أميل إلى إلصاق تهمة الصعوبة في الرواية ، و لا أستطيع القول إنها مستغلقة ، و لا أفضل أن أدعي أنها نخبوية و لشريحة خاصة ، بل أرى أن هذه الرواية قد تروق للقارئ الذي يحب التنقيب عن روح العمل باجتهاد و معاودة و تكرار ، و قد لا تروق اللقارئ الذي يبحث في كل عمل عن حبكة متسلسلة أو حكاية نافذة ، يُعزى ذلك إلى إشكالية الذوق و القبول قبل كل شيء .
1/ المكان الممتد و الزمن المحدد و التجريب:
تقوم الرواية على ركيزة الزمن بينما تشرّع أبواب المكان على فضاء أكثر اتساعا ، يصلح لأن يكون قالبا مكانيا لا تحدده بيئة ما و إن جاء ببعض أشياء المكان ، كالبيت الكبير و مكمن الغنم و المرسى و حتى أشياء الشخصيات كالعباءة و الديرم ، مما يشي ببيئة مألوفة و إن كانت قابلة للتمدد ، بينما ضيّقت الرواية خط الزمن بنحو مختلف : خمسة صباحات ، تارة تأمُّل ، و قنصة ما قبل التأمل ، و لنكون أكثر دقة نقول أن الرواية بكل أزمنتها المذكروة تُبنى على اثنتي عشرة ساعة مس فيها كاتب – في النص – ضبابي و مُحيّر و غير محدد ، شرهُ الكتابة ، ليواصل حرث الأوراق و يدلق بها كل ما يعرفه و ما لايعرفه و ما يحاصره من شخصية من شخوص نص أسماه النص اللقيط و من ثم لتنقلب عليه تلك الشخصية، و تبقى الرواية تأخذ المتلقي ليختار بكامل وعيه المهيمن بينهما ، أ يختار الكاتبَ أم الشخوص أنم يبقى في دهاليز المتاهات بينهما .
خمسة صباحات مسرودة بقالبين ، من وجهتيّ نظر ، الكاتب و الشخصية المتمردة ، و قد يظن المتلقي أن هذا ضرب من العبث و أن طبيعة الرواية_ أية رواية - لا تحتمل هذا الخروج عن المألوف في السرد ، و أن ذلك يُفقدها روح الحكاية و يشغل المتلقي بالقالب عن القلب و المضمون ، لكني وجدت أن ما قدمته رواية حمام الدار بعيد عن العبثية ، و ليس لإشغال المتلقي بالتجريب ، لأن الرواية تقدّم الحكاية لكن عبر صراع مؤثر لتعلق فكرة النص الأساسية و التي تتمحور حول : الفقد والانتظار .
فليست حمام الدار مجرد عمل تجريدي غير طاعن في قلق الكائن و معاناته ، إنما هي تغوص في تلك المعناة و لكن بنحو مختلف و ذكي .
حتى في الفصل المعنون بـ أثناء ساعة تأمل و المسرود على لسان شخصية " قطنة " و الذي يظهر كأنه فصل مُترف خارج من اعتيادية الوجع الإنساني ، حتى في هذا الفصل يقدم الناص أسئلة مقلقة حول الإذعان الإنساني للطاغية و مدى مضاء الروح في تغيير ما رُسم لها ، و ما يتكرم به المصير على الثائرين و الرافضين للخنوع .
إن مفارقة هذا العمل تظهر في تقديمه لمستوى جديد من التجريب ، فبالعادة يقودنا التجريب إلى تفهّم أن الرواية قامت على خلخلة القواعد في سبيل تطوير طبيعتها و تقديم مجموعة أخرى من الخيارات للقارئ ، فالشخصيات قد تُأوّل و تُسقط أو تنعكس ، لكن هنا في حمام الدار صار لكل شخصية تأويلا ، و تأويلا للتأويل ، و لكل حدث وجه و وجه للوجه ، و إن كنا قد اعتدنا أن تصرخ شخوص الرواية في " صانعها فلم نعتد أن تقوم شخصية ما في رواية ما بسرد وقائع حيوات المؤلف و تفاصيل أفعاله .
2/ مع الشخصيات :
لدينا في الرواية شخصيات محددة ، و لدينا إنعكاسات لها ، و سأذكر هنا الشخصيات حسب فهمي و التقاطي لتفاصيلها .
ملاحقة أحجية ابن أزرق في رواية حمام الدار لـ سعود السنعوسي
إنها فعلا أحجية ، رواية تبدأ من حيث تنتهي و تنتهي من حيث تبدأ ، تعتقد في بدايتها أنك ستدخل عالم رواية جميلة ترشح منها هموم الكتابة ، و مكابدات كاتب يروم إنهاء مخطوطه ، و تقرر أنك ستعاين تجربة جديدة ذات بعد روائي مركب قد لا يمت لهموم الإنسان اليومية بقدر ما يعرض قلقا خاصا ، لكنك بعد ذلك تكتشف أن الناص يُتيهك – متعمدا – في عالم روائي تجريبي لتلاحق مُمكنات الرواية و مكوناتها و تُحبس بالدهشة .
رواية حمام الدار / أحجية بن أزرق للكاتب سعود السنعوسي و الصادرة عن الدار العربية للعلوم رواية جدلية ، قد يجدها البعض مختلفة عن نِتاج الناص السابق ، و مغايرة عما يُنشر من روايات ، و بكل صدق أجدها علامة فارقة في خط سير الكاتب ، ذلك أن هذا العمل أظهر الذكاء السردي الفائق للكاتب و بيّن بجلاء عنايته بالتفاصيل و بكل كلمة و تركيب و حدث تضّمنه العمل ، و أكّد أن مامن سطر عبثي في رواية تُخايل المتلقي و تراوغه سطورها و تضطره لتكرار استنطاقها ، و أن عليك التقاط كل كلمة لتعبر إلى ما يمكن إدراكه منها .
لا أميل إلى إلصاق تهمة الصعوبة في الرواية ، و لا أستطيع القول إنها مستغلقة ، و لا أفضل أن أدعي أنها نخبوية و لشريحة خاصة ، بل أرى أن هذه الرواية قد تروق للقارئ الذي يحب التنقيب عن روح العمل باجتهاد و معاودة و تكرار ، و قد لا تروق اللقارئ الذي يبحث في كل عمل عن حبكة متسلسلة أو حكاية نافذة ، يُعزى ذلك إلى إشكالية الذوق و القبول قبل كل شيء .
1/ المكان الممتد و الزمن المحدد و التجريب:
تقوم الرواية على ركيزة الزمن بينما تشرّع أبواب المكان على فضاء أكثر اتساعا ، يصلح لأن يكون قالبا مكانيا لا تحدده بيئة ما و إن جاء ببعض أشياء المكان ، كالبيت الكبير و مكمن الغنم و المرسى و حتى أشياء الشخصيات كالعباءة و الديرم ، مما يشي ببيئة مألوفة و إن كانت قابلة للتمدد ، بينما ضيّقت الرواية خط الزمن بنحو مختلف : خمسة صباحات ، تارة تأمُّل ، و قنصة ما قبل التأمل ، و لنكون أكثر دقة نقول أن الرواية بكل أزمنتها المذكروة تُبنى على اثنتي عشرة ساعة مس فيها كاتب – في النص – ضبابي و مُحيّر و غير محدد ، شرهُ الكتابة ، ليواصل حرث الأوراق و يدلق بها كل ما يعرفه و ما لايعرفه و ما يحاصره من شخصية من شخوص نص أسماه النص اللقيط و من ثم لتنقلب عليه تلك الشخصية، و تبقى الرواية تأخذ المتلقي ليختار بكامل وعيه المهيمن بينهما ، أ يختار الكاتبَ أم الشخوص أنم يبقى في دهاليز المتاهات بينهما .
خمسة صباحات مسرودة بقالبين ، من وجهتيّ نظر ، الكاتب و الشخصية المتمردة ، و قد يظن المتلقي أن هذا ضرب من العبث و أن طبيعة الرواية_ أية رواية - لا تحتمل هذا الخروج عن المألوف في السرد ، و أن ذلك يُفقدها روح الحكاية و يشغل المتلقي بالقالب عن القلب و المضمون ، لكني وجدت أن ما قدمته رواية حمام الدار بعيد عن العبثية ، و ليس لإشغال المتلقي بالتجريب ، لأن الرواية تقدّم الحكاية لكن عبر صراع مؤثر لتعلق فكرة النص الأساسية و التي تتمحور حول : الفقد والانتظار .
فليست حمام الدار مجرد عمل تجريدي غير طاعن في قلق الكائن و معاناته ، إنما هي تغوص في تلك المعناة و لكن بنحو مختلف و ذكي .
حتى في الفصل المعنون بـ أثناء ساعة تأمل و المسرود على لسان شخصية " قطنة " و الذي يظهر كأنه فصل مُترف خارج من اعتيادية الوجع الإنساني ، حتى في هذا الفصل يقدم الناص أسئلة مقلقة حول الإذعان الإنساني للطاغية و مدى مضاء الروح في تغيير ما رُسم لها ، و ما يتكرم به المصير على الثائرين و الرافضين للخنوع .
إن مفارقة هذا العمل تظهر في تقديمه لمستوى جديد من التجريب ، فبالعادة يقودنا التجريب إلى تفهّم أن الرواية قامت على خلخلة القواعد في سبيل تطوير طبيعتها و تقديم مجموعة أخرى من الخيارات للقارئ ، فالشخصيات قد تُأوّل و تُسقط أو تنعكس ، لكن هنا في حمام الدار صار لكل شخصية تأويلا ، و تأويلا للتأويل ، و لكل حدث وجه و وجه للوجه ، و إن كنا قد اعتدنا أن تصرخ شخوص الرواية في " صانعها فلم نعتد أن تقوم شخصية ما في رواية ما بسرد وقائع حيوات المؤلف و تفاصيل أفعاله .
2/ مع الشخصيات :
لدينا في الرواية شخصيات محددة ، و لدينا إنعكاسات لها ، و سأذكر هنا الشخصيات حسب فهمي و التقاطي لتفاصيلها .
شخصية النص الأساسية و المحركة لعجلته هي شخصية " ابن أزرق" ، الكهل المأزوم ، صاحب إرث الذكريات المرة ، و وقائع الفجائع الآنية ، و التصرفات المريبة و الغير مبررة ، لكن السؤال الذي يُسعى إليه ، هل هو عرزال أم منوال ؟ و أيهما يكتب الآخر ؟ و من منهما الصادق في روايته ؟ أهو عرزال الذي كتب مذكراته مُرمزة ، أم هو منوال الذي سقط في فخ التدليس ؟ كلاهما كاتبان أصاب البكم قلميهما ، و كلاهما يناوش الآخر و يريد علو الكعب عليه ، و كلاهما يسعى في فناء الآخر لتكتمل الرواية .
أعتقد من خلال قراءتي البسيطة و ملاحقتي لتفاصيل الأحجية أن الكاتب الحقيقي هو من قدّم التفسير ـ _ أخيرا_ لكثير من الأمور الشائكة ، و أن الكاتب المزيف فضحته كلمة مثل " أشتاق " في السياق التالي:
" أنا في غرفة المكتب منذ الصباح ، أشكو لزوجتي التي " أشتاق " ضيق صدري و حيرتي في أمري "
أو ربما كما يقول عرزال :
" ذلك الموتور منوال ، المنسوب لأزرق ، الذي كتبتُه مؤلفا كاذبا حتى مقدمته ، يكتب عن نفسه ما يشتيه ، لم يجرؤ على الاعتراف بأنه انفصل عن منيرة ... استدعاها في نصه زورا مُتخايلا أمام قرّاء محتملين " ص 109
و كما يؤكد :
"اذهبي إلى شقة منوال ، دقي جرس بابه ، ادخلي و أخبريه بأنه مجرد شخصية مؤلف ورقية كتبها مؤلف آخر ، حاولي أن تقنعيه لأن يُنهي هذا المخطوط انتحارا تجنبا لمصير الدُّرج السفلي " ص :110
و في المقابل لدينا شخصيات أخرى لها انعكاسات و رمزيات في النص ، العجوز بصيرة التي أظنها صوت مُركز لهواجس و أخيلات منوال ، أفعى الدار التي لا تخون و المتمثلة بـ فايقة العبدة البرصاء ، قطنة ، حمام الدار و هم غائبوها الشائقون ، زينة و رحال ، و الأم : فيروز .
من الشخصيات أيضا " أزرق" الأب المحير ، المحب لزوجته فيروز الساخط عليها ، القاسي على عرزال و المتنصل من منوال ، و لا أعتقد أن الكاتب اختار عنواني " نص لقيط " و " نص نسيب " عبثا ، و لا انتخب دزم مبرر لـ ابن أزرق عينين شهلاوين تشبهان عين العبد الآبق الذي أثار غضب أزرق فطرد كل العبيد بينما أبقى على " فايقة " و ابنتها .
أعتقد – من خلال تتبعي للأحجية _ أن أزرق هنا يرمز لحبر الكتابة ، أو للكتابة بشكل عام ، و أن تلك القسوة البادية من قبل أزرق ما هي إلا امتداد لفكرة الفصل : في لحظة تأمل ، و تعزيزا لمفهوم سلطة الكاتب و هيمنته .
في الرواية :
" لم يعد لي مكان هنا فقد استحوذ أزرق على كل شيء " ص : 87
و فيها أيضا :
" علمته المذكرات أن أزرق البغيض على حق دائما و إن خالف كلامه ما يشتهي " ص 96
بالطبع يبقى هذا اجتهاد مُحاول في متون النص ، و لكل قارئ ضفة ما يسكن إليها ، و على العموم فإن هذا التشخيص قد يقودنا لسؤال المأزق في الرواية : هل الكاتب طاغية ؟ أم أب رؤوف ؟
رواية حمام الدار رواية غنية ، خاصة ، و لا أظن أن مثل هذه القراءة تحيط بها ، و بنقاط جمالها التي يجب أن يُشار إليها ، لكن يبقى أنها تجربة قرائية مميزة ، و منجز يستحق أن تزوره حمامات القلب مرارا .
أعتقد من خلال قراءتي البسيطة و ملاحقتي لتفاصيل الأحجية أن الكاتب الحقيقي هو من قدّم التفسير ـ _ أخيرا_ لكثير من الأمور الشائكة ، و أن الكاتب المزيف فضحته كلمة مثل " أشتاق " في السياق التالي:
" أنا في غرفة المكتب منذ الصباح ، أشكو لزوجتي التي " أشتاق " ضيق صدري و حيرتي في أمري "
أو ربما كما يقول عرزال :
" ذلك الموتور منوال ، المنسوب لأزرق ، الذي كتبتُه مؤلفا كاذبا حتى مقدمته ، يكتب عن نفسه ما يشتيه ، لم يجرؤ على الاعتراف بأنه انفصل عن منيرة ... استدعاها في نصه زورا مُتخايلا أمام قرّاء محتملين " ص 109
و كما يؤكد :
"اذهبي إلى شقة منوال ، دقي جرس بابه ، ادخلي و أخبريه بأنه مجرد شخصية مؤلف ورقية كتبها مؤلف آخر ، حاولي أن تقنعيه لأن يُنهي هذا المخطوط انتحارا تجنبا لمصير الدُّرج السفلي " ص :110
و في المقابل لدينا شخصيات أخرى لها انعكاسات و رمزيات في النص ، العجوز بصيرة التي أظنها صوت مُركز لهواجس و أخيلات منوال ، أفعى الدار التي لا تخون و المتمثلة بـ فايقة العبدة البرصاء ، قطنة ، حمام الدار و هم غائبوها الشائقون ، زينة و رحال ، و الأم : فيروز .
من الشخصيات أيضا " أزرق" الأب المحير ، المحب لزوجته فيروز الساخط عليها ، القاسي على عرزال و المتنصل من منوال ، و لا أعتقد أن الكاتب اختار عنواني " نص لقيط " و " نص نسيب " عبثا ، و لا انتخب دزم مبرر لـ ابن أزرق عينين شهلاوين تشبهان عين العبد الآبق الذي أثار غضب أزرق فطرد كل العبيد بينما أبقى على " فايقة " و ابنتها .
أعتقد – من خلال تتبعي للأحجية _ أن أزرق هنا يرمز لحبر الكتابة ، أو للكتابة بشكل عام ، و أن تلك القسوة البادية من قبل أزرق ما هي إلا امتداد لفكرة الفصل : في لحظة تأمل ، و تعزيزا لمفهوم سلطة الكاتب و هيمنته .
في الرواية :
" لم يعد لي مكان هنا فقد استحوذ أزرق على كل شيء " ص : 87
و فيها أيضا :
" علمته المذكرات أن أزرق البغيض على حق دائما و إن خالف كلامه ما يشتهي " ص 96
بالطبع يبقى هذا اجتهاد مُحاول في متون النص ، و لكل قارئ ضفة ما يسكن إليها ، و على العموم فإن هذا التشخيص قد يقودنا لسؤال المأزق في الرواية : هل الكاتب طاغية ؟ أم أب رؤوف ؟
رواية حمام الدار رواية غنية ، خاصة ، و لا أظن أن مثل هذه القراءة تحيط بها ، و بنقاط جمالها التي يجب أن يُشار إليها ، لكن يبقى أنها تجربة قرائية مميزة ، و منجز يستحق أن تزوره حمامات القلب مرارا .
ركض في حلم المُقعد
البدون في الأعمال الروائية والشعرية
يقوم الأدب على إرفاد همّ الكائن و قلقه و تطلعاته ، حيث يخلق الأديب مادته من صلصال الوجع الإنساني مشكلا بذلك صوتا خاصا لشخوصه . و كلما تعمّق الناص في الحالة و عزز مادته بالصور الشاملة و التفاصيل الدقيقة بأدوات ناجحة استطاع أن يوصل الرسالة الأدبية التي يرومها بنفاذ و ذكاء.
شخصية البدون في الأعمال الأدبية تنوعت بتنوع الكتّاب و طرائق التقديم ، فاستطاع البعض أن يرسم هذه الشخصية بطريقة واعية تبتعد عن التراجيديا المسطحة و حصرها في إطار التعاطف ، بل قدّمها لقلق كوني يرفد أصل القضية و امتدادها ، و هناك من ضمنّها بصورة إشارة في العمل الأدبي لا كمحور أساسي للنص إلا أن هذه الإشارة كان لها الأثر البالغ و صارت جزء هاما من روح العمل .
تجربة الأديب الراحل ناصر الظفيري تعد من التجارب الهامة في هذا الصدد ، كونه قدّم القضية بعدة قوالب ، فكان العمل المميز " ثلاثية الجهراء " : الصهد – كاليسكا – المسطر ، عملا مرجعيا لحالة البدون في الكويت ، بحيث تناول تفاصيل هذه ( المأساة ) من نشأتها كما في " الصهد " و إلى تبعاتها كما في " كاليسكا " و ثم في المسطر قدم منها وجها آخر أكثر خصوصية يسلط الضوء على العسكريين البدون ، و يتطرق للمغتربين منهم ، و على كل فإن هذا الثلاثية تثري المكتبة الأدبية العربية .
من التجارب الراسخة أيضا تجربة الأديب إسماعيل فهد إسماعيل ، و خصوصا رواية في حضرة العنقاء و الخل الوفي التي اعتبرها البعض أفضل ما قُدّم في هذا الصدد و أصدقه و أشمله .
هنالك أيضا نتاجات أدبية أخرى تستعرض هذا الوجع النابض في عروق المجتمع الكويتي تذكر على سبيل الإشارة لا الحصر مثل رواية ثلاثة من الشمال لخالد تركي ، و نوفيلا صفيح لهنادي الشمري ، و رواية المغيسل لـ موضي رحال و غيرهم ، و من الملفت أن كل هذه الإصدارات قدمت " البدون " بمستويات مختلفة من التلقي ، منها المباشر الغائص في عمق المعاناة ، و منها المرمز الذي يلتف حولها ، و منها ما هو يرسم ارهاصات النفس المقهورة .
في استعراضنا لصورة البدون في المواد الأدبية " النثر و الشعر " نجد أن هذه الصورة طُرحت من خلال عدة تقنيات ، فمرة نجد الشخصية محورية ، و مرة نجدها عارضة ، و مرة نجدها ملتصقة بوطن يلفظها ، و مرة تتجرع ألم الغربة و المنفى .
أولا : صورة البدون الأعمال الروائية .
1/ جذور مغروسة في الوطن :
تقدم رواية " في حضرة العنقاء و الخل الوفي " شخصية المنسي بن أبيه الذي يمر بمحكات عديدة و تحولات شديدة كشخصية تُفرغ عن لسان فئة البدون ، هذه الشخصية التي يتجلى فيها " الولاء " كأكبر عنصر حيوي في التكوين النمطي الروائي ، و تقوم الرواية عن تعزيز هذه الصورة ، و هذا الكيان الرافض – رغم كل الظروف – لمغادرة أرض الوطن رغم قسوة المواجهات .
رغم ذلك نجد أن الرواية تغوص في أدق التفاصيل الشائكة لنمط الحياة اليومية لهذه الشريحة و يمتد خط الرواية الزمني من ولادة الجرح إلى استفحاله .
2/ المنشار ، تشوه الروح في ذكريات ضالة لـ عبد الله البصيص :
رواية ذكريات ضالة لـ عبد الله البصيص رواية شائكة تلج إلى أعمق دهاليز النفس الإنسانية عتمة ، و رغم السرد الموجع و الأحداث الدموية إلا أن ضوءً يشبه ضوء آخر النفق يرشح من هذه الرحلة الروائية ، قدم الكاتب شخصية البدون لكن بصورة مختلفة عن غالبية الأعمال الأدبية حيث توغل في منحنيات النفس المحرومة المقهورة و قادنا بطواعية إلى النتائج دون سطر وعظوي واحد . تسرد الرواية كيف تحول حميد شاكر الفتى المهذب الفائق و " البدون " إلى " المنشار " ، المجرم الهارب من عدالة مشوهة ، و الذي يصعق النقيب " سلمان " في لحظة كشف مؤثرة بحقيقة معرفتهما السابقة في الطفولة و صداقتهما المفترضة ، فتنزل الذكريات على على بطل الرواية " النقيب سلمان " و يتجلى السؤال :
" مالذي فعل بك هذا ؟"
ليكون هيكل الرواية ككل هو الإجابة الأشد وجعا .
عبد الله البصيص سار في مسارب روائية جديدة ، و خاص تجربة التجديد في الطرح ، و حمّل المتلقي كل التعاطف دون استدار مستهلك ، كما أنه أرفد رسالة لحوحة بضروة الوعي بالأمور و مآلها .
3/ آلام الغربة و المنفى في ارتطام لم يسمع له دوي :
تقدم الكاتبة بثينة العيسى في روايتها ارتطام لم يسمع له دوي شخصية محورية وهي " ضاري" المرشد الطلابي البدون المغترب في السويد و الذي يتقاطع مساره مع " فرح " الطالبة الكويتية المبتعثة لمسابقة الأولمبياد العلمية ، و الذي يظهر في شحوب السويد بكويتيته الزاهية ، من عادات و تقاليد و ذوق في الأكل و الشرب كصحن "صب القفشة " و دلة القهوة ، و حتى في ممارسات الحياة الاعتيادية اليومية .
البدون في الأعمال الروائية والشعرية
يقوم الأدب على إرفاد همّ الكائن و قلقه و تطلعاته ، حيث يخلق الأديب مادته من صلصال الوجع الإنساني مشكلا بذلك صوتا خاصا لشخوصه . و كلما تعمّق الناص في الحالة و عزز مادته بالصور الشاملة و التفاصيل الدقيقة بأدوات ناجحة استطاع أن يوصل الرسالة الأدبية التي يرومها بنفاذ و ذكاء.
شخصية البدون في الأعمال الأدبية تنوعت بتنوع الكتّاب و طرائق التقديم ، فاستطاع البعض أن يرسم هذه الشخصية بطريقة واعية تبتعد عن التراجيديا المسطحة و حصرها في إطار التعاطف ، بل قدّمها لقلق كوني يرفد أصل القضية و امتدادها ، و هناك من ضمنّها بصورة إشارة في العمل الأدبي لا كمحور أساسي للنص إلا أن هذه الإشارة كان لها الأثر البالغ و صارت جزء هاما من روح العمل .
تجربة الأديب الراحل ناصر الظفيري تعد من التجارب الهامة في هذا الصدد ، كونه قدّم القضية بعدة قوالب ، فكان العمل المميز " ثلاثية الجهراء " : الصهد – كاليسكا – المسطر ، عملا مرجعيا لحالة البدون في الكويت ، بحيث تناول تفاصيل هذه ( المأساة ) من نشأتها كما في " الصهد " و إلى تبعاتها كما في " كاليسكا " و ثم في المسطر قدم منها وجها آخر أكثر خصوصية يسلط الضوء على العسكريين البدون ، و يتطرق للمغتربين منهم ، و على كل فإن هذا الثلاثية تثري المكتبة الأدبية العربية .
من التجارب الراسخة أيضا تجربة الأديب إسماعيل فهد إسماعيل ، و خصوصا رواية في حضرة العنقاء و الخل الوفي التي اعتبرها البعض أفضل ما قُدّم في هذا الصدد و أصدقه و أشمله .
هنالك أيضا نتاجات أدبية أخرى تستعرض هذا الوجع النابض في عروق المجتمع الكويتي تذكر على سبيل الإشارة لا الحصر مثل رواية ثلاثة من الشمال لخالد تركي ، و نوفيلا صفيح لهنادي الشمري ، و رواية المغيسل لـ موضي رحال و غيرهم ، و من الملفت أن كل هذه الإصدارات قدمت " البدون " بمستويات مختلفة من التلقي ، منها المباشر الغائص في عمق المعاناة ، و منها المرمز الذي يلتف حولها ، و منها ما هو يرسم ارهاصات النفس المقهورة .
في استعراضنا لصورة البدون في المواد الأدبية " النثر و الشعر " نجد أن هذه الصورة طُرحت من خلال عدة تقنيات ، فمرة نجد الشخصية محورية ، و مرة نجدها عارضة ، و مرة نجدها ملتصقة بوطن يلفظها ، و مرة تتجرع ألم الغربة و المنفى .
أولا : صورة البدون الأعمال الروائية .
1/ جذور مغروسة في الوطن :
تقدم رواية " في حضرة العنقاء و الخل الوفي " شخصية المنسي بن أبيه الذي يمر بمحكات عديدة و تحولات شديدة كشخصية تُفرغ عن لسان فئة البدون ، هذه الشخصية التي يتجلى فيها " الولاء " كأكبر عنصر حيوي في التكوين النمطي الروائي ، و تقوم الرواية عن تعزيز هذه الصورة ، و هذا الكيان الرافض – رغم كل الظروف – لمغادرة أرض الوطن رغم قسوة المواجهات .
رغم ذلك نجد أن الرواية تغوص في أدق التفاصيل الشائكة لنمط الحياة اليومية لهذه الشريحة و يمتد خط الرواية الزمني من ولادة الجرح إلى استفحاله .
2/ المنشار ، تشوه الروح في ذكريات ضالة لـ عبد الله البصيص :
رواية ذكريات ضالة لـ عبد الله البصيص رواية شائكة تلج إلى أعمق دهاليز النفس الإنسانية عتمة ، و رغم السرد الموجع و الأحداث الدموية إلا أن ضوءً يشبه ضوء آخر النفق يرشح من هذه الرحلة الروائية ، قدم الكاتب شخصية البدون لكن بصورة مختلفة عن غالبية الأعمال الأدبية حيث توغل في منحنيات النفس المحرومة المقهورة و قادنا بطواعية إلى النتائج دون سطر وعظوي واحد . تسرد الرواية كيف تحول حميد شاكر الفتى المهذب الفائق و " البدون " إلى " المنشار " ، المجرم الهارب من عدالة مشوهة ، و الذي يصعق النقيب " سلمان " في لحظة كشف مؤثرة بحقيقة معرفتهما السابقة في الطفولة و صداقتهما المفترضة ، فتنزل الذكريات على على بطل الرواية " النقيب سلمان " و يتجلى السؤال :
" مالذي فعل بك هذا ؟"
ليكون هيكل الرواية ككل هو الإجابة الأشد وجعا .
عبد الله البصيص سار في مسارب روائية جديدة ، و خاص تجربة التجديد في الطرح ، و حمّل المتلقي كل التعاطف دون استدار مستهلك ، كما أنه أرفد رسالة لحوحة بضروة الوعي بالأمور و مآلها .
3/ آلام الغربة و المنفى في ارتطام لم يسمع له دوي :
تقدم الكاتبة بثينة العيسى في روايتها ارتطام لم يسمع له دوي شخصية محورية وهي " ضاري" المرشد الطلابي البدون المغترب في السويد و الذي يتقاطع مساره مع " فرح " الطالبة الكويتية المبتعثة لمسابقة الأولمبياد العلمية ، و الذي يظهر في شحوب السويد بكويتيته الزاهية ، من عادات و تقاليد و ذوق في الأكل و الشرب كصحن "صب القفشة " و دلة القهوة ، و حتى في ممارسات الحياة الاعتيادية اليومية .
ضاري المشبع بزاد الغربة يجد في " فرح الكويتية " عطر الوطن ، فتسيل الذكريات من مكمنها الحارق ، و يضرى جوعه للكويت ، فيسأل عن جوها و ناسها و شوارعها و حتى عن مكتبة العجيري ، فتصير الفتاة فرح رمزية للوطن الشائق و يشكل التقاء فرح و ضاري مأزق الرواية و سؤالها الموجع .
نجد أن الناصة أخذت بالقضية إلى منحى الغربة و الانتماء و إمكانية القبول بالمسارات المقررة ، و عززت الفكرة من خلال السرد اللين الطيّع و الذي ركز على هذا الجانب من قضية البدون ، فصار ضاري في ارتطام لم يسمع له دوي صوت كل هذه الشريحة المغتربة ، و لسان حالها .
ثانيا : سيل القريحة .
للشعر حالة مختلفة من التلقي ، فيبقى الشعر رهينا بمنطقة الانفعالات و همسات الخاطر ، لكني اجد في تجربة الشاعر حسن الفضلي أصدق محطة ممكن اللجوء إليها لفهم " بعض " دواخل النفس ، نحن هنا في مواجهة لمعاناة سحيقة الجذور في أرض الوجع ، و الاجتهاد الروائي يتضامن في البوح الشعري ليتكامل الطرح الأدبي للقضية .
يقول الشاعر حسن الفضلي :
مات الصبا لما وُلدت عديما
حيُّ و تحسبني الكويت رميما
كالعشب ما اخضر الربيع بعوده
حتى تصرّمه الخريف هشيما .
يعرض الشاعر معاناة الرفض و المراوحة في نقطة الصفر منذ مستهلات الوعي الأول إلى آخر رمق ، و في هذا الوجه تتشابه الحياة و الموت ، و ربيع العمر و خريفه ، دون نيل أبسط استحقاقات الحياة و بديهياتها .
و لعل أصدق بيت في قصيدة مات الصبا هو :
لا هم أُسارى يرقبون خلاصهم
أو ميتون يؤملون رحيما .
هذا حصار ، محدق ، كاتم للنفس ، خانق لشبح الأمنية ، حصار في منطقة هلامية مغيبة لا هي تشبه بهجة الحياة و لا طمأنينة الموت .
يرسم الشاعر في قصيدة تسائلكم تلك الدموع وجها آخر للمعاناة و هو وجه الغربة و الفراق ، فراق الوطن و الأحبة المغتربين الساعين لأمان الهوية ، و الهاوين في فخ وجع المنفى الأبدي :
تغرّب آبائي فخُلفت بعدهم
صغيرا تُربي خطوتي المهارب
و أبغي انتماء يبعث الطفل داخلي
و هل تُرجع الأوطان ما النفيُ سالب.
يتقاطع هذا اللون من القصائد بقصائد المهجر ، ليتذوق المتلقي طعم الحسرة في الاقتلاع من الوطن ، و كرب الفراق الملازم للشاعر ، ذلك الكرب الذي لن تُبلسمه حتى أوراق الانتماء المستعارة من وطن غريب يشعر خلاله أنه دخيل أبدي ، و تلك البعثرة التي لن ترممها أية هوية مصطنعة .
الكتابة عن قضية البدون تحمل أبعادا شاسعة ، و وجعا متراكما يُتخم الروح ، لكنه أيضا يحمّل ذاكرة الأدب رسالة بليغة ، فحين ينزف الوجع ، يشكل آمال النفس التائقة إلى وطن يعترف بها ، يحفظ تاريخها و عطاءها ، و لا يستلبها و لا يعامل حقوقها كـ ركض في في حلم مُقعد .
نجد أن الناصة أخذت بالقضية إلى منحى الغربة و الانتماء و إمكانية القبول بالمسارات المقررة ، و عززت الفكرة من خلال السرد اللين الطيّع و الذي ركز على هذا الجانب من قضية البدون ، فصار ضاري في ارتطام لم يسمع له دوي صوت كل هذه الشريحة المغتربة ، و لسان حالها .
ثانيا : سيل القريحة .
للشعر حالة مختلفة من التلقي ، فيبقى الشعر رهينا بمنطقة الانفعالات و همسات الخاطر ، لكني اجد في تجربة الشاعر حسن الفضلي أصدق محطة ممكن اللجوء إليها لفهم " بعض " دواخل النفس ، نحن هنا في مواجهة لمعاناة سحيقة الجذور في أرض الوجع ، و الاجتهاد الروائي يتضامن في البوح الشعري ليتكامل الطرح الأدبي للقضية .
يقول الشاعر حسن الفضلي :
مات الصبا لما وُلدت عديما
حيُّ و تحسبني الكويت رميما
كالعشب ما اخضر الربيع بعوده
حتى تصرّمه الخريف هشيما .
يعرض الشاعر معاناة الرفض و المراوحة في نقطة الصفر منذ مستهلات الوعي الأول إلى آخر رمق ، و في هذا الوجه تتشابه الحياة و الموت ، و ربيع العمر و خريفه ، دون نيل أبسط استحقاقات الحياة و بديهياتها .
و لعل أصدق بيت في قصيدة مات الصبا هو :
لا هم أُسارى يرقبون خلاصهم
أو ميتون يؤملون رحيما .
هذا حصار ، محدق ، كاتم للنفس ، خانق لشبح الأمنية ، حصار في منطقة هلامية مغيبة لا هي تشبه بهجة الحياة و لا طمأنينة الموت .
يرسم الشاعر في قصيدة تسائلكم تلك الدموع وجها آخر للمعاناة و هو وجه الغربة و الفراق ، فراق الوطن و الأحبة المغتربين الساعين لأمان الهوية ، و الهاوين في فخ وجع المنفى الأبدي :
تغرّب آبائي فخُلفت بعدهم
صغيرا تُربي خطوتي المهارب
و أبغي انتماء يبعث الطفل داخلي
و هل تُرجع الأوطان ما النفيُ سالب.
يتقاطع هذا اللون من القصائد بقصائد المهجر ، ليتذوق المتلقي طعم الحسرة في الاقتلاع من الوطن ، و كرب الفراق الملازم للشاعر ، ذلك الكرب الذي لن تُبلسمه حتى أوراق الانتماء المستعارة من وطن غريب يشعر خلاله أنه دخيل أبدي ، و تلك البعثرة التي لن ترممها أية هوية مصطنعة .
الكتابة عن قضية البدون تحمل أبعادا شاسعة ، و وجعا متراكما يُتخم الروح ، لكنه أيضا يحمّل ذاكرة الأدب رسالة بليغة ، فحين ينزف الوجع ، يشكل آمال النفس التائقة إلى وطن يعترف بها ، يحفظ تاريخها و عطاءها ، و لا يستلبها و لا يعامل حقوقها كـ ركض في في حلم مُقعد .
نظرة عمياء للغيب الملون
سحر القصيدة يكمن في اشتياق العودة إليها ، و التجوّل في غنّاء حروفها مرة أخرى ، و أعتقد أن هذا ما يراهن عليه أي ديوان شعري .
في ديوان : نظرة عمياء للغيب الملون للشاعر محمد الصفار ، وجدت أن القصائد تستبقيني ، و تلّح عليّ للعودة مرارا .
.
.
كنت قد قرأت للشاعر المكرم العديد من النصوص عبر النشر الافتراضي ، ووجدت هذه التجربة الورقية ذات تأثير معاضد و مُكمل ، و هي تجربة جميلة تضافر فيها جمال النص مع لوحة الغلاف المعبرة .
.
.
كل قصيدة لها صوتها الخاص ، تستحق قراءة منفردة ، لكن إن نظرنا إلى الديوان كوحدة عضوية واحدة نجد أن الشاعر ينطلق من المعنى المألوف إلى صورة متجددة ،
فالشاعر يشتغل في هذا المجموعة كلها على معنى واسع ، مألوف و مفهوم ، مُستقى من العاطفة ، لكنه يطوّر هذا الحب المألوف عبر صور شعرية جميلة الابتكار ، تخرج من فضاء التلقي العادي إلى سِعة تأملية أكبر ، رغم أنه يستخدم رموزا تُعد مفهومة ، و أعتقد أن هذا أمر بالغ الجمال في الديوان .
يقول الشاعر في قصيدة " خيول الضوء السابحة في اليقين " :
.
- بك خيلٌ مشى علو قلب شعري
سمع الحرف مُذ مشى منه ضبحا
.
إن سلمان في فؤادي تجلى
طفح الحب فيّ مذ كان رشحا
.
حلّقت روح ميثم حينما جنحانه
كُسرت على النخل ذبحا.
.
و هذا مثال من أمثلة عدة . .
أعتقد بالفعل أن هذه التجربة مميزة ، و ملفتة ، و أجد أن الشاعر استطاع رغم قيود القصيدة العمودة أن يخرج بصور شاسعة و رحيبة تأخذ المتلقي إلى عالم معناها بتحرر تام و ابتكار .
سحر القصيدة يكمن في اشتياق العودة إليها ، و التجوّل في غنّاء حروفها مرة أخرى ، و أعتقد أن هذا ما يراهن عليه أي ديوان شعري .
في ديوان : نظرة عمياء للغيب الملون للشاعر محمد الصفار ، وجدت أن القصائد تستبقيني ، و تلّح عليّ للعودة مرارا .
.
.
كنت قد قرأت للشاعر المكرم العديد من النصوص عبر النشر الافتراضي ، ووجدت هذه التجربة الورقية ذات تأثير معاضد و مُكمل ، و هي تجربة جميلة تضافر فيها جمال النص مع لوحة الغلاف المعبرة .
.
.
كل قصيدة لها صوتها الخاص ، تستحق قراءة منفردة ، لكن إن نظرنا إلى الديوان كوحدة عضوية واحدة نجد أن الشاعر ينطلق من المعنى المألوف إلى صورة متجددة ،
فالشاعر يشتغل في هذا المجموعة كلها على معنى واسع ، مألوف و مفهوم ، مُستقى من العاطفة ، لكنه يطوّر هذا الحب المألوف عبر صور شعرية جميلة الابتكار ، تخرج من فضاء التلقي العادي إلى سِعة تأملية أكبر ، رغم أنه يستخدم رموزا تُعد مفهومة ، و أعتقد أن هذا أمر بالغ الجمال في الديوان .
يقول الشاعر في قصيدة " خيول الضوء السابحة في اليقين " :
.
- بك خيلٌ مشى علو قلب شعري
سمع الحرف مُذ مشى منه ضبحا
.
إن سلمان في فؤادي تجلى
طفح الحب فيّ مذ كان رشحا
.
حلّقت روح ميثم حينما جنحانه
كُسرت على النخل ذبحا.
.
و هذا مثال من أمثلة عدة . .
أعتقد بالفعل أن هذه التجربة مميزة ، و ملفتة ، و أجد أن الشاعر استطاع رغم قيود القصيدة العمودة أن يخرج بصور شاسعة و رحيبة تأخذ المتلقي إلى عالم معناها بتحرر تام و ابتكار .
صناديق المعنى
ملاحقة احتمالات نص نهر النعاج لـ إستبرق أحمد
لا يجدر بقصة ما - أية قصة - أن تَشُلّ المتلقي و تُعجزه ، لكن قصة تقدّم الفكرة بأبعاد عدة ، و تهب القارئ مسارات متشعبة من أرضية جادة للفهم و هي مع ذلك تبقى في وُسع القارئ الذي يأخذ منها "العبارة" المُشكِّلة للحدث المُجرّد ، و في وسع القارئ الذي يبحث فيها عن " الإشارة " و ترشحات الباطن أيضا ، لهي قصة تستحق أن تُطارد .
في النصوص القائمة على العبارة قد نجني قدرا من المتعة و الدهشة و العِبرة ، لكن في النصوص التي تقوم على الأبعاد الممتدة نجني اكتمالا سرديا عظيم الأثر ، لأننا نبقى - أثناء فعل التلقي - في مطاردة مستمرة للتأويل ، كأننا في حضرة صناديق عدة تهبها المفردة و التركيب السردي و الحدث و المشهدية و الشخصية ، فنحصل من كل صندوق على صندوق آخر ، و هكذا ..
عندما أنهيت قراءة نص ( نهر النعاج ) لـ إستبرق أحمد تعالقت مع تلك الفِكر المبطنة ، و كانت القراءة الأولى قد أعطتني بُعدا أوليا يتمثل في الفهم المسطّح للنص ، كنتُ أمام قصة تؤول إلى قيمة جزاء الأعمال و عواقب الأمور ، مخاضات المنح و المنع، و هي في ذلك المدى قصة جميلة ملفتة ، تقوم على أرضية أسطورية ، من مُكونات سردية مُدهشة . فنجد أن الناصة اشتغلت على المُكونات بتناغم مع روح النص و أجوائه ، فالزمان متعدد يُمثّل محركا لتطور الحدث، و المكان سيد العقدة و مكمنها ، و الشخصيات مرسومة بعناية لتقتطف من المتلقي غضبا أو تعاطفا و اللغة طُرزت بما يخدم اكتمال العمل .
في القراءات الأخرى صرتُ أحصد احتمالات متعددة ، ترفتع عن أرض النص متحررة من أثقال الوجه الواحد، بأجنحة تهبها مكونات في النص نفسه : الألوان ، الأشياء ، الأرقام :
على سبيل المثال ، لم يكن عبثيا أن يتلون النهر باللون الأسود ، ففي النص نجد أن حدث البداية وَمض من نبوءة ( عارف ) و ليس ( عرّاف ) أخبر والدا مُعدما و موجوعا بهجر زوجة و صاحب عائلة و أب الشخصية المحورية عن نهر مخبوء ، يقدّم الثراء لمن يقدّم له القرابين ، و هذا قوام النص ، العلاقات المتشعبة الهائجة و النافرة من عطايا هذا النهر المراوغ ، نجد أن الناصة اختارت اللون الأسود الذي يعطي فرضيات منها :
-أنه نهر نفطي .
-أنه نهر آسن .
و رغم أن تركيب ( النهر الآسن الذي يكره أبناء التراب ) قد ورد في النص إلا أننا نقدر على تفعيل التركيب لينزح بنا إلى احتمالات متعددة .
و على صعيد الأشياء قدّم النص رمزيات متعددة ، فهل كان الأخوة الميتون هم النعاج النافقة ؟ ألم يرد في النص أن النهر قذف جثث الإخوة القرابين مفرغة العين ، بينما تعتمر وجوه النعاج - الهبات - أعين ماكرة ؟
قدمت الناصة أيضا اشتغالا على الرقم ٣ في النص ، فالأحداث الكبرى تجري في ثلاثة ليال :
-ثلاث ليال قدّم فيها الأب أولادا ثلاثة قربانا للنهر .
-ثلاث أيام ترى الشخصية المحورية أن النعاج منتفخة ترفع أطرافها للسماء .
-النص مقسّم لثلاثة أزمنة : الرحلة الأولى لموافاة النهر ، مرحلة تقديم القرابين و الأثر الفاحش للثراء ، النفوق المفجع للنعاج .
هذا الثالوث الضمني - قد - يقدّم فكرة محتملة تدور حول : الأمس و اليوم و الغد ، أو على : فكرة الفعل / الفعل / أثر الفعل .
يبقى أن هذا النص محوره الإنسان و أن ألبسته الكاتبة ثوبا رمزيا بفنية عالية ، ففيه يتعرى الكائن أمام جشعه ، و يُبرز خبايا حِيله ، و يطغى ، و يصم سمعه عن نداءات العطاء ، و يبحث عن مغفرة في قلب الأضحيات .
ملاحقة احتمالات نص نهر النعاج لـ إستبرق أحمد
لا يجدر بقصة ما - أية قصة - أن تَشُلّ المتلقي و تُعجزه ، لكن قصة تقدّم الفكرة بأبعاد عدة ، و تهب القارئ مسارات متشعبة من أرضية جادة للفهم و هي مع ذلك تبقى في وُسع القارئ الذي يأخذ منها "العبارة" المُشكِّلة للحدث المُجرّد ، و في وسع القارئ الذي يبحث فيها عن " الإشارة " و ترشحات الباطن أيضا ، لهي قصة تستحق أن تُطارد .
في النصوص القائمة على العبارة قد نجني قدرا من المتعة و الدهشة و العِبرة ، لكن في النصوص التي تقوم على الأبعاد الممتدة نجني اكتمالا سرديا عظيم الأثر ، لأننا نبقى - أثناء فعل التلقي - في مطاردة مستمرة للتأويل ، كأننا في حضرة صناديق عدة تهبها المفردة و التركيب السردي و الحدث و المشهدية و الشخصية ، فنحصل من كل صندوق على صندوق آخر ، و هكذا ..
عندما أنهيت قراءة نص ( نهر النعاج ) لـ إستبرق أحمد تعالقت مع تلك الفِكر المبطنة ، و كانت القراءة الأولى قد أعطتني بُعدا أوليا يتمثل في الفهم المسطّح للنص ، كنتُ أمام قصة تؤول إلى قيمة جزاء الأعمال و عواقب الأمور ، مخاضات المنح و المنع، و هي في ذلك المدى قصة جميلة ملفتة ، تقوم على أرضية أسطورية ، من مُكونات سردية مُدهشة . فنجد أن الناصة اشتغلت على المُكونات بتناغم مع روح النص و أجوائه ، فالزمان متعدد يُمثّل محركا لتطور الحدث، و المكان سيد العقدة و مكمنها ، و الشخصيات مرسومة بعناية لتقتطف من المتلقي غضبا أو تعاطفا و اللغة طُرزت بما يخدم اكتمال العمل .
في القراءات الأخرى صرتُ أحصد احتمالات متعددة ، ترفتع عن أرض النص متحررة من أثقال الوجه الواحد، بأجنحة تهبها مكونات في النص نفسه : الألوان ، الأشياء ، الأرقام :
على سبيل المثال ، لم يكن عبثيا أن يتلون النهر باللون الأسود ، ففي النص نجد أن حدث البداية وَمض من نبوءة ( عارف ) و ليس ( عرّاف ) أخبر والدا مُعدما و موجوعا بهجر زوجة و صاحب عائلة و أب الشخصية المحورية عن نهر مخبوء ، يقدّم الثراء لمن يقدّم له القرابين ، و هذا قوام النص ، العلاقات المتشعبة الهائجة و النافرة من عطايا هذا النهر المراوغ ، نجد أن الناصة اختارت اللون الأسود الذي يعطي فرضيات منها :
-أنه نهر نفطي .
-أنه نهر آسن .
و رغم أن تركيب ( النهر الآسن الذي يكره أبناء التراب ) قد ورد في النص إلا أننا نقدر على تفعيل التركيب لينزح بنا إلى احتمالات متعددة .
و على صعيد الأشياء قدّم النص رمزيات متعددة ، فهل كان الأخوة الميتون هم النعاج النافقة ؟ ألم يرد في النص أن النهر قذف جثث الإخوة القرابين مفرغة العين ، بينما تعتمر وجوه النعاج - الهبات - أعين ماكرة ؟
قدمت الناصة أيضا اشتغالا على الرقم ٣ في النص ، فالأحداث الكبرى تجري في ثلاثة ليال :
-ثلاث ليال قدّم فيها الأب أولادا ثلاثة قربانا للنهر .
-ثلاث أيام ترى الشخصية المحورية أن النعاج منتفخة ترفع أطرافها للسماء .
-النص مقسّم لثلاثة أزمنة : الرحلة الأولى لموافاة النهر ، مرحلة تقديم القرابين و الأثر الفاحش للثراء ، النفوق المفجع للنعاج .
هذا الثالوث الضمني - قد - يقدّم فكرة محتملة تدور حول : الأمس و اليوم و الغد ، أو على : فكرة الفعل / الفعل / أثر الفعل .
يبقى أن هذا النص محوره الإنسان و أن ألبسته الكاتبة ثوبا رمزيا بفنية عالية ، ففيه يتعرى الكائن أمام جشعه ، و يُبرز خبايا حِيله ، و يطغى ، و يصم سمعه عن نداءات العطاء ، و يبحث عن مغفرة في قلب الأضحيات .
سيدات القمر لـ جوخة الحارثية تجربة جميلة تقوم على السرد المتقطّع المتحرر من خط الزمان ، رغم تعزيز حضور المكان ( العوافي ) و الخوض في غماره و طبقات أفراده .
أعجبني إيراد قضية الرق ، و إظهار الكثير من ملامح حيوات العبيد على سطح الرواية لكني شعرت أن العمل قادر على إعطاء المزيد من تلك الملامح ، كما أحببت غوص الكاتبة بكينونة العديد من النساء وردود أفعالهن و تحولاتهن بلغة مدهشة و نافذة و ممتعة .
الرواية جميلة والتكنيك السردي ذكي لكن تولدت لدي عند القراءة بعض الملاحظات :
- شعرت أن الشخصيات لم تصل إلى مستوى الإشباع ، ثمة نواقص كثيرة في رسم تفاصيلها و ملامحها و لا أعني أن الكاتب مطالب بوصف تفصيلي لكن الشخصيات المقدمة أو بعضها للإنصاف تحتاج للمزيد من الاشتغال .
- النهاية ، أعتقد أن النهاية بحاجة للمزيد من الكتابة ، حين أنهيت الرواية بدت لي النهاية مفتعلة و لا تخدم سير الأحداث و لا تحقق لي فكرة الاطمئنان بعد ملاحقة التصاعد في السرد ، و على العموم لم تقدّم الكاتبة الرواية بهذه التقنية ، تقنية مطاردة الحدث ، بالأساس لم يكن هنالك حدث يود المتلقي معرفته باستثناء قضية موت أم ( عبد الله ) ، و شعرت أن النص كان بحاجة لتعزيز هذه القضية حتى يكون للرواية سؤال يستحق المطاردة .
- الرواية كانت تقدّم النهايات ، بسرعة ، بالطبع لم تكن النهايات منطفئة لكنها بحاجة للمزيد من البريق ، بمعنى أن المتلقي منذ الصفحات الأولى عرف أن لندن ستطلق و عرف أن ابن ظريفة سيسافر للكويت و عرف أن خولة ستتزوج بابن عمها ، لكن الفصول اللاحقة كانت تَرِد فقط لتخبرنا كيف حصل ذلك .
و هذه تقنية جميلة لكني وودت أن تقدم بمزيد من أدوات إثارة فضول القارئ .
هذه الرواية عمل مقدر و تبقى هنالك بعض رؤى خاصة و تذوق يختلف من شخص لآخر .
أعجبني إيراد قضية الرق ، و إظهار الكثير من ملامح حيوات العبيد على سطح الرواية لكني شعرت أن العمل قادر على إعطاء المزيد من تلك الملامح ، كما أحببت غوص الكاتبة بكينونة العديد من النساء وردود أفعالهن و تحولاتهن بلغة مدهشة و نافذة و ممتعة .
الرواية جميلة والتكنيك السردي ذكي لكن تولدت لدي عند القراءة بعض الملاحظات :
- شعرت أن الشخصيات لم تصل إلى مستوى الإشباع ، ثمة نواقص كثيرة في رسم تفاصيلها و ملامحها و لا أعني أن الكاتب مطالب بوصف تفصيلي لكن الشخصيات المقدمة أو بعضها للإنصاف تحتاج للمزيد من الاشتغال .
- النهاية ، أعتقد أن النهاية بحاجة للمزيد من الكتابة ، حين أنهيت الرواية بدت لي النهاية مفتعلة و لا تخدم سير الأحداث و لا تحقق لي فكرة الاطمئنان بعد ملاحقة التصاعد في السرد ، و على العموم لم تقدّم الكاتبة الرواية بهذه التقنية ، تقنية مطاردة الحدث ، بالأساس لم يكن هنالك حدث يود المتلقي معرفته باستثناء قضية موت أم ( عبد الله ) ، و شعرت أن النص كان بحاجة لتعزيز هذه القضية حتى يكون للرواية سؤال يستحق المطاردة .
- الرواية كانت تقدّم النهايات ، بسرعة ، بالطبع لم تكن النهايات منطفئة لكنها بحاجة للمزيد من البريق ، بمعنى أن المتلقي منذ الصفحات الأولى عرف أن لندن ستطلق و عرف أن ابن ظريفة سيسافر للكويت و عرف أن خولة ستتزوج بابن عمها ، لكن الفصول اللاحقة كانت تَرِد فقط لتخبرنا كيف حصل ذلك .
و هذه تقنية جميلة لكني وودت أن تقدم بمزيد من أدوات إثارة فضول القارئ .
هذه الرواية عمل مقدر و تبقى هنالك بعض رؤى خاصة و تذوق يختلف من شخص لآخر .
جراح الهوية
نظرة في رواية قيد الدرس لـ لنا عبدالرحمن
لم تكن مصادفة أن أصل إلى قناعتي الموجعة في رواية الدكتورة لنا عبدالرحمن " قيد الدرس " و الصادرة عن دار الآداب ، قناعتي بتطابق آلام جراح مشكلة الهوية و الانتماء ، مهما تبدل المكان و المناخ و تعددت الشخوص .
.
.
عندما أتصفح الرواية و أنتقل من فصل لآخر يدهشني التشابه حد الاطمئنان ، و أجد أبطال الرواية يخرجون من الورق بصلصال آدمي مفهوم لتتم إحالتي إلى بؤرة المعاناة ، مكانها / أفرادها .
فتجرية الأسرة " أسرة نجوى " محور الرواية ، بأفرادها الحاملين هوية " قيد الدرس " و التي تتشابه كثيرا مع الأحوال الفجيعة للبدون عززت قناعتي ، فالأسرة تخرج من بيروت لدير الزور حيث بيوت الصفيح و لعل هذه المكونات الروائية تتقاطع مع رواية هنادي الشمري " صفيح " ، و تمر على هذه الأسرة تحولات عديدة أساسها و وقودها هوية قيد الدرس التي لا تضمن صاحبها ضمن انتماء ما .
أسرة نجوى ابنة عواد الكردي المتجول و المتزوجة من باسم عبدالله المناضل الذي هربت به أمه من قرية " قَدس " إلى مخيمات اللاجئين بلبنان و ماتت عنه في سن الثامنة عشر ، هذه الأسرة يحمل أفرادها هوية قيد الدرس ، فيتيهون في طرائق الانتماء ، الزوجة و الأطفال فتحوا أعينهم على بيروت وطنا أليفا ، و باسم الأب يغطس في حروبه : الذاتية و الإقليمية لينبش عن سؤال الانتماء فيضيع في الخارطة .
.
.
١/تأثير المكان :
دارت أحداث الرواية في أمكنة متعددة ، لكن منطقة
" دير السرو " كان لها التأثير الأكبر ، حيث بيوت الصفيح و النسيج السكاني المكون من البدو و الغجر الرُّحل ، و حتى الميسورين أصحاب القصور مثل أسرة الفتاة المترفة "سماء" .
كان تواجد عالمين منفصلين في ذات المنطقة له تأثيره المبطن في أعماق شخصيات الرواية ، فـ " ليلى" بنت الأسرة الحاملة لهوية قيد الدرس و الحائزة على المركز الأول في المدرسة و القادمة من بيروت تخجل من باص المدرسة حين ينتظرها صباحا قرب البيت المتواضع .
و حسّان / الأخ ترفض خطبته لنسرين زميلته في المدرسة لأن أباها يؤكد ضرورة انتسابه لعشيرة كبيرة لم تبعثر أفرادها قرية مثل " عدس " .
.
.
٢/ لمحة عن الشخصيات :
قرأت لدكتورة لنا ثلاث روايات بتوالي : ثلج القاهرة ، أغنية لمارجريت ، قيد الدرس و كنت قد قرأت لها تلامس قبل سنوات ، و في كل تجربة أخرج بشخصيات محترفة التشكيل ، تدهشني لكني أصدق بوجودها .
في رواية قيد الدرس شخصيات عديدة محورية و ثانوية و كلها كانت حقيقية مؤثرة و لو حضرت بخفوت في الرواية .
فنجوى الأم السلبية الباردة الأعصاب ، ترى حياتها تتداعى أمام عينيها لكنها لا تحرك ساكنا و تكتفي بندب حظها مما ينسحب على صحتها و عظامها.
و الأخ الأصغر حسن الذي يتيه في درب الارهاب باحثا عن الله في الطريق الخطأ ، و الذي يحمّل الأب كل أوزار الأسرة بينما يكرر هو تجربته بحذافيرها !
و أعتقد أن هذا لب الرواية ، فرار / تطابق الحيوات ، و تلك المناورة بين الجذور و الفروع .
.
.
٣/ اللغة و التقديم :
لغة الرواية جميلة جدا ، تمثل إحالة لعوالمها ، حتى الحوارات تنقل المتلقي بخفة إلى كينونة الشخصية و آفاق تفكيرها و حدودها أيضا .
سمحت الناصة لشخصية ليلى و شخصية حسّان بالحديث ، بسرد فصول كاملة من الرواية ، بطريقة تقنع المتلقي بالتحولات الطارئة و العميقة في كل شخصية بين ليلى الطفلة مثلا و ليلى الأم و الزوجة المتعبة و القديسة المضحية .
هذا التقديم أسس متانة السرد في الرواية .
نظرة في رواية قيد الدرس لـ لنا عبدالرحمن
لم تكن مصادفة أن أصل إلى قناعتي الموجعة في رواية الدكتورة لنا عبدالرحمن " قيد الدرس " و الصادرة عن دار الآداب ، قناعتي بتطابق آلام جراح مشكلة الهوية و الانتماء ، مهما تبدل المكان و المناخ و تعددت الشخوص .
.
.
عندما أتصفح الرواية و أنتقل من فصل لآخر يدهشني التشابه حد الاطمئنان ، و أجد أبطال الرواية يخرجون من الورق بصلصال آدمي مفهوم لتتم إحالتي إلى بؤرة المعاناة ، مكانها / أفرادها .
فتجرية الأسرة " أسرة نجوى " محور الرواية ، بأفرادها الحاملين هوية " قيد الدرس " و التي تتشابه كثيرا مع الأحوال الفجيعة للبدون عززت قناعتي ، فالأسرة تخرج من بيروت لدير الزور حيث بيوت الصفيح و لعل هذه المكونات الروائية تتقاطع مع رواية هنادي الشمري " صفيح " ، و تمر على هذه الأسرة تحولات عديدة أساسها و وقودها هوية قيد الدرس التي لا تضمن صاحبها ضمن انتماء ما .
أسرة نجوى ابنة عواد الكردي المتجول و المتزوجة من باسم عبدالله المناضل الذي هربت به أمه من قرية " قَدس " إلى مخيمات اللاجئين بلبنان و ماتت عنه في سن الثامنة عشر ، هذه الأسرة يحمل أفرادها هوية قيد الدرس ، فيتيهون في طرائق الانتماء ، الزوجة و الأطفال فتحوا أعينهم على بيروت وطنا أليفا ، و باسم الأب يغطس في حروبه : الذاتية و الإقليمية لينبش عن سؤال الانتماء فيضيع في الخارطة .
.
.
١/تأثير المكان :
دارت أحداث الرواية في أمكنة متعددة ، لكن منطقة
" دير السرو " كان لها التأثير الأكبر ، حيث بيوت الصفيح و النسيج السكاني المكون من البدو و الغجر الرُّحل ، و حتى الميسورين أصحاب القصور مثل أسرة الفتاة المترفة "سماء" .
كان تواجد عالمين منفصلين في ذات المنطقة له تأثيره المبطن في أعماق شخصيات الرواية ، فـ " ليلى" بنت الأسرة الحاملة لهوية قيد الدرس و الحائزة على المركز الأول في المدرسة و القادمة من بيروت تخجل من باص المدرسة حين ينتظرها صباحا قرب البيت المتواضع .
و حسّان / الأخ ترفض خطبته لنسرين زميلته في المدرسة لأن أباها يؤكد ضرورة انتسابه لعشيرة كبيرة لم تبعثر أفرادها قرية مثل " عدس " .
.
.
٢/ لمحة عن الشخصيات :
قرأت لدكتورة لنا ثلاث روايات بتوالي : ثلج القاهرة ، أغنية لمارجريت ، قيد الدرس و كنت قد قرأت لها تلامس قبل سنوات ، و في كل تجربة أخرج بشخصيات محترفة التشكيل ، تدهشني لكني أصدق بوجودها .
في رواية قيد الدرس شخصيات عديدة محورية و ثانوية و كلها كانت حقيقية مؤثرة و لو حضرت بخفوت في الرواية .
فنجوى الأم السلبية الباردة الأعصاب ، ترى حياتها تتداعى أمام عينيها لكنها لا تحرك ساكنا و تكتفي بندب حظها مما ينسحب على صحتها و عظامها.
و الأخ الأصغر حسن الذي يتيه في درب الارهاب باحثا عن الله في الطريق الخطأ ، و الذي يحمّل الأب كل أوزار الأسرة بينما يكرر هو تجربته بحذافيرها !
و أعتقد أن هذا لب الرواية ، فرار / تطابق الحيوات ، و تلك المناورة بين الجذور و الفروع .
.
.
٣/ اللغة و التقديم :
لغة الرواية جميلة جدا ، تمثل إحالة لعوالمها ، حتى الحوارات تنقل المتلقي بخفة إلى كينونة الشخصية و آفاق تفكيرها و حدودها أيضا .
سمحت الناصة لشخصية ليلى و شخصية حسّان بالحديث ، بسرد فصول كاملة من الرواية ، بطريقة تقنع المتلقي بالتحولات الطارئة و العميقة في كل شخصية بين ليلى الطفلة مثلا و ليلى الأم و الزوجة المتعبة و القديسة المضحية .
هذا التقديم أسس متانة السرد في الرواية .
HTML Embed Code: