الرصد بالإحالة : في رواية باقي الوشم لـ عبد الله الحسيني
" فغرت فاها ، انفرج حاجباها بعد تقطيبة ، لهثت ، هللت؛ خليف يا خليف ، حسبناها تبشر بعودة محمد ، " هذا سرب القطا ياي صوبنا "
هل يشكل رصد الواقع مهمة من مهام الرواية ، و هل يعد توثيقه هو المُحرّك الذي يسيّرها و يحركها و يصنع تطوراتها و تحولاتها ؟ نحن نجد أن أبلغ الروايات هي تلك التي تنطلق من الواقع المعاش أو من معاناة حقيقية يُحسن الناص تجلية تفاصيلها و تضمينها بفنية عالية، غير أني أجد في رواية باقي الوشم للكاتب عبد الله الحسيني و الصادرة حديثا عن منشورات تكوين انزياحا يبتعد عن الرصد الصرف ، و يفوق أيضا الرصد الفنيّ ، بل يوجهه من خلال الانزياحات البسيطة التي تشبه " بؤرا " ولاّدة ، و التي قد تتعدى إلى الرمزيات في محاولة لمواكبة و تضمين معاناة شريحة الكويتيون البدون .
و حين نقول مواكبة علينا استيعاب أن الرواية كائن حي متطور و إننا لا نمشي - حين نُبيّن ذلك - بدرب الترف الروائي ، إنما يتأكد من خلال ملاحظة ما وصلت إليه الرواية اليوم بعد نمو معرفي بالقضية ، و مدى تأثير عاملي :
⁃ الزمن .
⁃ تراكم الأعمال السابقة التي قدمت القضية .
فرواية باقي الوشم كرست قضية البدون لكنها تفردت بذاتها و قدمت صوتا خاصا يعتمد على الإحالات التي من أهمها : البرد و انتظار الربيع الذي تعيشه شخصية النص " حمضة السحاب " ؛ فرمزية البرد هنا هي العَين التي تفجر التدفق السردي لأحداث العمل ، و تبيّن بفنية تتعمد عدم الرصد المجرَّد للصعوبات و المآزق التي تعيشها عائلة نموذجية من البدون تُعايش في يومياتها المصاعب المتنامية ، من استحالة العمل ، و صعوبات الدراسة ، و مكابدات الارتباط الزوجي ، و عدم صدور شهادات الدراسة و الولادة و الوفاة ، و حتى النبش في ثالوث الصراع : الهوية - الأسرة - الذات.
هذا التضمين لصعوبات البدون جاء في العمل بنحو متدفق ، يشبه المواجهات ، و لم يأتِ كتطعيم مستقصد . الأمر أشبه بلعبة الاكتشاف ، أو بفتح النوافذ على مغامرة الممكن ، فالمتلقي يُنصت للراوي الذي نعرف منه : اسمه - طبيعة مسكنه ، انتظاره بعثة الدراسة - عدم حيازته على رخصة القيادة ؛ و نتبع ذلك الإنصات متتبعين للحكاية الطاغية للجدة " حمضة السحاب " التي يجرّ بردُها اللاسع كل قاطرة الألم ، و التي تتفتح من خلالها حكايا سكان الدار كمريم الهايشة ، و محمد ، و الأب المخذول ، و حتى الأم التي تبدو كمن يعيش حياة مُستعارة .فصار المتلقي يتبع الحكاية الأهم ليستقبل الحكايا الصغيرة مطواعا و مشرعا باب الفهم لاستثنائية تلك الشريحة .
و مع ذلك ، نجد أن النص نبش في جذور القضية ، كما ورد في الرواية في صفحة : ١٠٩
"ظل يقول إنها ورقة لا تضر و لا تنفع ، هاهو يسكن هنا وحياته متيسرة ، فلم هذا العنا؟ "
و أعتقد أن هذا المميز في العمل ، كون أن سطرا واحدا مكثفا يجيب عن الكثير من الأسئلة المتعلقة باستثنائية حالة البدون و ما يمكن لفعل عابر ماض أن يصنع في حيوات الأجيال اللاحقة .
⁃ لغة الرواية :
تُظهر لغة العمل قدرا كبيرا من النضوج الروائي لدى الناص ، كون أن اللغة مُشبعة بظروف المكان و خصوصية البيئة الروائية و ما يعتمل فيها من أحداث ، و نضاحة بمفرداته و تراكيبه التي تسيل على لسان الراوي بنحوه يشبهه و لا يغرّب المتلقي عنه ، فصارت اللغة في العمل يَدا ساحبة أو مغناطيسا جاذبا يمسك بوعي القارئ . فنجد مثلا هذا التركيب اللغوي :
" و كما يندفع القيء فجأة اتدفع البكاء من عينيها و اختض جسدها كما لو كانت تُنقل الحزن لفرط ثقله بين أضلعها"
تركيب متناغم مع البيئة بعيد تماما عن التكلف.
كما نجد تعمد الراوي على استخدام كلمات مثل : قدّام بدل أمام باشتغال متناسق مع روح العمل ، و نضيف على ذلك الحورات المحكية المتنوعة بين سكّان الجهراء و أهل الحاضرة ، و بالطبع لهجة الجدة الخاصة القادمة من جهة الشمال . على أن عبارة في النص استوقفتني حين تحدثت الجدة للمرة الأولى باللهجة الكويتية ، إذ قالت :
" هذا سرب القطا جاي صوبنا "
فهل كان الكاتب يتقصد هنا استبدال لهجة حمضة السحاب بالكويتية مقابل لهجتها الدارجة ، إذ توجب أن تقول :
"هذا سرب القطا جاي مقابيلنا مثلا "
و العبارة الموالية أيضا إذ قالت الجدة :
"اتركني خليف هدني"
و المفترض أن تقول " عوفني" مثلا .
فهل كان اقتراب الربيع المنتظر ولادة جديدة لحمضة ، و نقطة انبعاث تفتح من خلالها مخابئ الروح لتتحرر من كل الأحمال و أوزار الهوية التي تخجل منها حفيدتها ، و التي تُعد عائقا عسيرا أمام حُلم المواطنة ؟
ما يمكن الركون إليه ، أن هذه الرواية قالت الكثير مما يمكن قوله عبر الإحالات ، و أيقظت عين المتلقى على قِران النجوم في محاولة تقصي الربيع المنتظر ، و أبقت على حياة حمضة التي كما تقول الرواية :
"لم يذكر اسمها في نشرة أخبار التاسعة ..لم تكتب في قائمة وفيات الغد كما لم تكن لها شهادة وفاة كأنها كانت محض خيال في رؤوسنا".
>>Click here to continue<<