TG Telegram Group Link
Channel: Rivey
Back to Bottom
Holm
Emel
Rivey
Emel – Holm
هذه الأغنية البديعة الآسرة , تقيس مدى عِظَم وضخامة وزن كلمة 'لو' بين ضآلة أيدينا المرتعشة المتزلفة التي نمدها من حين لآخر، راجين عطية من سخاء الكون المترامي.

"لو كنت أسافر في خيالي"
لا شيء يدوم، ومع ذلك، كل شيء يستمر. تسللت هذه الفكرة إلى عقلي مرارًا، ولكأنها ترفض أن تُهمَل، شعرت بأنني ضئيلة لأول مرة عندما فكرت في الكون بهذا الشكل التجريدي، وأنني صغيرة جدًا في مواجهة هذه الأبعاد اللامتناهية.

وأعترف أن هذه الفكرة قد أربكتني في البداية. لكن مع مرور الوقت، اكتشفت أن هذا الاتساع لا يعني أنني بلا قيمة، بل يعني أنني جزء من شيء أكبر بكثير.

وفي خضم تأملاتي عن هذا العالم العظيم، عن كل ما فيه وما ليس فيه، تساءلت: هل هناك شيء في هذا الكون لم يحدث بعد؟ سؤال سخيف، أعرف ذلك، فأضحك بصوت خافت عليه بينما أراقب دعسوقة صغيرة تحاول تسلق سياج الحديقة. لعلها تظن أن العالم ليس أكثر من بضع شجيرات وجدار. وربما أنا أيضًا، بحماقتي البشرية، لا أرى من الكون إلا بقدر ما تراه هذه الحشرة المسكينة.

لكن لا بأس، فهناك الكثير من الحيوات لتعاش، الكثير من الضحكات لتُسمع، الكثير من أكواب القهوة لتُشرب، والقبل لتُمنح، والأحاديث لتُقال، والممرات لتُسلك، والأيادي لتُمسك، والأحضان لتُعطى، والقصائد لتكتب. وهناك أيضًا الكثير من الوجوه لتحفظ، والدموع لتذرف، والمحطات التي لا مفر من مغادرتها.

هناك خير في هذا العالم، أو لعله فيني أنا. لكنني هنا، ولأجل ذلك فقط، سأعيش هذا العالم بكامل الأنانية، لأنني في كل لحظة أدرك كم أنني صغيرة، وتجربتي مع الحياة بسيطة جدًا.

إن حياتنا ليست سوى لحظة بسيطة.

لذا دعنا نعيش هذه اللحظة كما هي، بما يتاح لنا. الخير ضئيل، نسبي، لن يغير شيئًا، لكنه يكفي ليصنع لنا سريرًا وكفنًا، حتى نحب ونموت بالطريقة التي نريد.
الزمن لا يغيّر الماضي. لا يعيد تشكيله ولا يمنحه فرصة أخرى. وإذا تحرّينا الدقة، فالماضي لا يعيد نفسه أبدًا، وإنما يرفض أن يُمحى، وهذه هي مأساة التاريخ وسرّ مخاوفه.

علاقتنا بالماضي معقدة وقهرية بعض الشيء؛ إذ يتلاشى للحظات، ثم يهوي علينا فجأة كحجر في ماء ساكن. يحضر حين لا ندعوه، ويختفي حين نبحث عنه.

أما عني أنا، فقد خبرت الزمن وعرفت حيله؛ هو لا يداوي شيئًا، بل يتظاهر بذلك. يعطينا الفرص لنمضي قدمًا، ثم يسحبنا فجأة إلى حيث لا نريد.

ولهذا قد تجدني أحيانًا أرتجف تحت وطأة الماضي. أحنّ، أعود، ألفّ حوله كالدرويش، متخمة بحضرته، ثم أهرب. لكنني رغم كل ذلك، لا أصطدم به كثيرًا، لأنني – ويا للمفارقة – لا أجيد البقاء فيه. أو ربما، رغم هواجسي، أحترم إيقاع الزمن الذي يواصل المضيّ قدمًا.

فها أنا ذا، محاصرة وعالقة على حافة هذا التيه الرمادي الممتد، مشنوقة، يتأرجح جسدي في منتصف الممر الطويل. لا أحد يناديني من الخلف، ولا أحد ينتظرني في الأمام. فلستُ أنا ابنة الأمس تمامًا، ولا امرأة الغد بعد.
Rivey
Warda – Fe Yom We Layla Live
في يوم وليلة، هكذا هي المشاعر.

في يوم وليلة فقط، قد تفيض المشاعر أو تنحسر، قد تُبنى كالصرح أو تذوب كالسراب. هذه الفكرة تُثير في ذهني زوبعةً.

هل المشاعر لحظة سوء فهم مطوّلة، كما كان يزعمها دومًا؟ أم أنها، على العكس، نوع من الفهم العميق المجرّد بشكل مريع؟ عندما استيقظت صباح اليوم الأخير من سطوة المشاعر عليّ، شعرت بأنني شخص آخر. لا شيء قد تغيّر في العالم، ومع ذلك، كل شيء مختلف. بالأمس فقط، كنت أشعر بحب عميق تجاهه، تعلق بلا قرار، ولكن اليوم لم يعد هناك شيء ملموس لأتمسك به. مجرد صورة باهتة وأحساس طفيف بالذنب. لكن كيف يمكن لشيء أن يكون بهذه الهشاشة؟ كيف يمكن لشيء بدا وكأنه سرمدي أن ينهار بين ليلة وضحاها؟

حتى عندما خرجت إلى الشارع، كان الناس يسيرون في صمت، وكأنهم يعرفون سر هذا التبدّل، لكن لا أحد يبوح به. ربما يشعرون بالشيء ذاته، لكنهم مثلي لا يجرؤون على الاعتراف. لم أسعَ إلى فهم أي شيء، وعلى عكس عادتي، لم أبحث عن المعنى هنا ولم أفنّده حتى رغم استغرابي. لكنني سخرتُ—وكثيرًا—أي عبثٍ هذا الذي يدفع القلب إلى أن يبني قلاعًا في الصباح ثم يهدمها في المساء؟ بل أي معنى للإنسان نفسه إذا كانت مشاعره، التي يصرخ ملء فمه بأنها جزء من جوهره، بل جوهره كله، لا تصمد أمام الريح؟

في المساء، أُهمهم بلحن وأنا في منتصف غرفتي. ضجةٌ في كل مكان، داخل رأسي وخارجه.

قال لي جدّي ذات مرة: "الدنيا ما بتدي الحريف." سواء أكنتَ قد حاولت فهم مشاعرك أو تجاهلتها تمامًا، فإنها تبقى كما هي—حرة، عشوائية، غير مكترثة بمن يحاول تحليلها. لا شيء يغيّرها: لا الفكر، ولا المنطق، ولا حتى الزمن. إنها تحدث، ثم تنتهي، بلا سبب، بلا تفسير، بلا وعد بالبقاء.
الفلسفة والفن يتقدمان بشكل أفقي، حيث لا يتم استبدال الأفكار أو الاتجاهات السابقة كليًا، بل تُبنى كل مرحلة على التي سبقتها وتهيئة الأرضية للتي تليها مما يمهد الطريق لظهور تيارات جديدة. ولذا فإن دراسة تاريخ الفن والفلسفة ضرورية جدًا لبناء وربط سلسلة فنية أو فلسفية جديدة سليمة، أو حتى لفهم التفاوت التكميلي لكلتا الحركتين. لذلك، من الصعب تكوين أي فهم شامل للبنية الجديدة دون أخذ لمحة من البنية المفاهيمية القديمة، التي قامت وستقوم عليها الحركات الفكرية والجمالية.

وليس المقصود هنا بالتاريخ دراسته بشكل سطحي أو متفرق، يقتصر على الأحداث والأشخاص، بل المقصود هنا هو تسليط الضوء على المسار الذي تتجلى فيه الكينونة عبر الفكر والفن، دون السقوط في التحوير السردي والتحليلي أو الانغماس في الهوامش غير المؤثرة. وإذا أراد المرء أن يقرأ التاريخ قراءة سليمة، فعليه أن يقرأ تلك الأفكار التي انتقلت عبره، والأساليب التي تم نقلها من خلاله مع إدراك أن التاريخ لا يُنقل بحيادية مطلقة، بل يخضع لضرورات اجتماعية وسياسية تؤثر في تشكيله وإعادة إنتاجه. ولأن هذه الدراسة لا تختص بالحقيقة وتمظهراتها التاريخية. ولا بوضع الحقيقة ضمن تصور زمني متسلسل بل كأسلوب فهم لجوهرها.
Karl Harald Alfred Broge
"مهما كان النص عظيمًا، إذا قرأه عقل صغير، يصبح النص صغيرًا." — أدونيس

يذكرني النص أعلاه بإحدى أفكار هانز جورج غادامير في "الهرمنيوطيقا" حيث يرى أن الفهم ليس مجرد استرجاع لنية المؤلف، بل هو عملية تفاعل بين النص والقارئ عبر الزمن.

المحتوى الفني يمكن أن يكون عظيمًا أو تافهًا وفقًا لمن يتلقاه. الفن كيان مفتوح، وليس مغلقًا، يتعرض للتأويل والتفسير حسب العقلية التي تتناوله، ولذلك فهو موضوع حيوي للغاية، قابل للربط والتفكيك. إن العلاقة بين النص والقارئ تتجاوز العلاقة بين النص والكاتب في كثير من الجوانب. وهنا تكمن أهمية القارئ بوصفه مشاركًا مهمًا وفعالًا في بناء المعنى أو حتى هدمه كليًا. وبهذا يمكننا القول إن استقبال الفن من قبل الآخر هو إحدى أهم خطواته، بل إن العمل الفني، في كثير من الأحيان، لا يكتمل إلا في لحظة تلقيه وتأويله من قبل الأخرين .

إن تطور المعرفة لدينا يعكس تصورنا وفهمنا للعالم. فالفنان ينقل شيئًا من تجربته الإنسانية والوجودية، والقارئ يستقبلها حسب تجاربه وأحواله هو. ولكن هل يمكننا، من خلال هذا المنظور، أن نطلق على الفن بأنه مادة بلا يقين؟
الأنانية كفضيلة

أحد صفات الجوهر الأساسية وهو "الكوناتوس" كما يصفه سبينوزا، وهو المجهود الذاتي لكل شيء ليبقى على حاله. وانطلاقًا من هذا المبدأ، ومع العزل الصارم للفهم التقليدي للأخلاق، يمكننا وصف الأنانية بكونها فضيلة لازمة لبقاء واكتمال سعي الإنسان - جزء لا يتجزأ من الطبيعة ونزعاتها - الذي هو ذاته محكومٌ بإحدى رغباته الأساسية، وهي تحقيق نفسه حسب فهمه لهذا العالم.

وكما أشرتُ أعلاه، فليس المقصود بالأنانية هنا الجشع والتعالي. بل المقصود هنا تأكيد الفرد بكونه فردًا، وتأكيد الجماعة بكونها مجموعة أفراد لكل منهم استقلاله. فلا محالة أن الإنسان يرى نفسه مركز العالم، بل حتى إن حدود وعيه لا تتجاوز وجوده الخاص. ومن هنا تنبع الأنانية المشار إليها، فيشعر الفرد بأن حاجاته ورغباته لها الأهمية القصوى، بينما تبدو حاجات الآخرين مجرد وقائع ثانوية أو عوائق محتملة في طريق تحقيق مصلحته.

ومع ذلك فلا ينبغي الخلط بين الأنانية التقليدية والأنانية المجردة، فإن الأولى مرتبطة بالطغيان، أما الثانية فمرتبطة بوفاء الفرد إلى نفسه.

إن الإنسان العاقل لا يسعى وراء اللذائذ المؤقتة التي ترضي رغبات عشوائية وعرضية، بل يسعى لطلب الخير الحقيقي، والذي حتى الآن يتجلى في فهم العالم واتساق أفعاله مع ضروراتها. ومن هذه الفكرة، فإن الأنانية لا تدخل ضمن تداعيات لا معنى لها. فليس كل ما تطلبه النفس يُجاب، وليس كل ما يُجاب قد تطلبه النفس. إنها تفاوتات يجب أن يعي لها المرء جيدًا حتى لا يرتمي في دوامة لن يخرج منها سليمًا.

في الختام إن الأنانية لا تتعارض مع الأخلاق إذا ما فُهمت من داخل هذا القالب. هي أحد الأسباب النبيلة التي تدفع المرء إلى الدفاع لأجل وجوده وبقائه. أن يقول: مرحبًا أيها العالم، أنا هنا، دون أي إخفاء للغير.
"الشر يرتكبه أناس ليس لديهم أي دافع، ولا قناعات، وهم ليسوا سيئين." (تفاهة الشر)

آه، كم عذبني كلامك هذا يا أرندت. فكرت فيه كثيرًا قبل أن أتفوّه بأي كلمة، بل حتى إنني صمت يومًا كاملًا. لم تقفز قناعاتي لتغطي المشهد كالمعتاد، قلّبت الفكرة مرارًا وتكرارًا داخل عقلي. هل الشرّ فعلًا تافه إلى هذا الحد؟ وهل مقترفوه أناس لم يدركوا بعد إنسانيتهم؟

هناك الكثير مما تعرفينه أنت وأجهله أنا، ولكن هناك شيء في فكرتك يثير القلق، وهو أن الشر لا يتطلب وحشية، بل يتطلب الفراغ، غياب العقل، استسلامًا وحيادًا مخيفًا. تقولين إنه لا ينشأ من كراهية أو عنف "متعمد"، بل يأتي فقط من الامتثال الأعمى.

ألا ترين، يا حنة، أن هذا الحياد بحد ذاته جريمة؟ أن اللاوعي الذي تتحدثين عنه، هذا الانقياد الساذج، ليس مجرد "تفاهة"، بل هو خيانة للإنسان، للعقل؟ أليس من يرتكب الشر بلا وعي، بلا صراع داخلي، أكثر خطورة ممن يختار الشر عن وعي؟

وبشكل ما فإنني أفهم أن الإنسان قد يكون أداة للدمار دون أن يكون وحشًا، لكني أجد نفسي في مواجهة سؤال لم تفصّلي فيه كما يجب: هل الشر فعل بحد ذاته؟ فعندما تصفين أولئك الذين يرتكبون الفظائع دون وعي، دون قناعة، دون حتى لحظة تأمل، فإنك ربما تحاولي أن تقدمي لنا صورة الإنسان الحديث الذي فقد إرادته، ذلك الإنسان الذي تحوّل إلى ترس في آلة ضخمة.

ولكن دعيني أخبرك، ورغم وضاعة رأيي عند عقل منير مثل عقلك، يا حنة: لا يوجد شر "تافه"، بل يوجد بشر "تافهون"، وهم أولئك الذين لا يفكرون، ولا يقررون، ولا يختارون. إنهم الذين يهربون من مسؤولية خلق القيم. هم ليسوا فقط أداة للشر، بل هم أيضًا الإنكار الحيّ للحياة، للخطر، للتمرّد، لما يجعل الإنسان إنسانًا.

لقد تحدثتِ عن الشر وكأنه ينشأ عن غياب التفكير، لكن أليس غياب التفكير نفسه نابعًا من شيء أكبر؟ من غياب القوة، غياب الشجاعة، غياب الإنسان نفسه؟ الإنسان الذي يكتفي بأن يكون مجرد منفّذ، مجرد قطعة شطرنج، هو إنسان ضعيف، ويستحق أن يُسحق تحت ثقل أفعاله. إذن، فإن غياب التفكير جريمة عظيمة، وليس عذرًا لها.

ما يجب أن توجّهي إليه إصبع الاتهام، يا حنة، ليس الشر اللامفكر، بل الإنسان اللامريد، ذلك الذي اختار أن يكون لا شيء، أن يكون تابعًا، أن لا يكون سيدًا حتى على ذاته.

إن التفاهة ليست تبريرًا، ولا يمكننا أن نقول عن شخص ارتكب الشر إنه لم يكن شريرًا لأنه لم يفكر. التفكير ذاته هو مسؤوليتنا الأولى. في النهاية، لا شيء يبرر الجريمة، حتى الغباء.
هذا الفجر، رأيته من نافذة شرفتي... الشيطان.

لم يكن حزينًا،
ولا مصفدًا،
ولا حتى حيران.

ولم يكن ظلًا،
ولا نارًا،
ولا هذيانًا.

بلا قرون،
بلا قيود،
ولا كبريت
ولا دخان.

قبعة، وبدلة،
وحذاء مهترئ،
وعلى أطراف أصابعه
تتدلى سيجارة كوبية،
يشربها بترف
كأنه السلطان.

وحين التقت أعيننا، قال على عجل:

أتبنين بيتًا في وجه الطوفان؟
أتغرقين خوفًا من الخزلان؟
أتلاحقين السراب كأنه فيضان؟
أم تهربين من التيه… إلى التيه

لم أجبه،
ولم يُعِد السؤال
وغنى الصمتُ أغنية الكتمان.

ثم همس،
وهو يقلب في ذاكرته البعيدة، العتيقة:

لقد رأيت إيكاروس،
يعرف أن السقوط حتمي،
ومع ذلك، ارتفع،
لأن التحليق بلا سقوط... ليس طيران.

ورأيت المدن تسقط،
لا حين اقتحمها الغزاة بصحبة بتروكلوس،
بل حين فتحت أبوابها للحصان.

رحل،
وبقى صوته يتردد في الهواء:

ما أتعس الإنسان….
الوعي ليس حالة، ليس صفة، وليس جبلًا تتسلقه ثم تصل إلى قمته. بل الوعي، في جوهره، فوضى. وحركة شد وجذب مستمرة، وربما ولهذا السبب، نرى الفلاسفة والمفكرين أحيانًا يسقطون في هفوات غريبة، محيرة، تكاد تكون سخيفة لشدة بعدها عن الواقع أو تناقضها مع نفسها. إذ كيف يمكن لعقل مفكر، يفترض به أن يكون متماسكًا، أن ينتهي إلى مثل هذه السقطات؟

لكن قبل الخوض في ذلك، ما هو موضوع الوعي؟ هل له غاية كما يزعم البعض؟ وما الذي يجعل من خلاله الفكر ممكنًا ،للمعرفة أساس، وللأخلاق مبرر؟

إن الإنسان لا يعرف شيئًا قبل أن يدركه، لكنه أيضًا لا يدرك شيئًا قبل أن يعيه.وهذا قد يعني أن الوعي ليس مجرد مرحلة ثانوية، بل هو الأساس نفسه من هذا الجانب

ورغم ترددي، وعدم توصلي إلى إجابة نهائية، إلا أنني ومن موقفي الحالي، أقول إن الوعي هو ما يمنح الفكر قوته التركيبية، وهو ما يجعل العالم ممكنًا كمجال للمعرفة وحتى للتجربة الإنسانية. ولا أقصد أن الإنسان يعي لمجرد أنه يفكر أو يشعر بل لأنه يغوص في جوهر شيء أعقد، شيء لا ينفصل عن نفسه ولا تقاس حقيقته إلا بمعيار ذاتها، ويعيد تشكيل نفسه باستمرار في شبكة مترابطة من المعاني والتجارب.

ومع ذلك وبالعودة إلى النقطة الأولى ، فإن من المفارقات أن هذا الوعي، الذي يفترض أن يكون طريقنا إلى الفهم، هو نفسه ما يجعلنا نضيع في كثير من الأحيان، فهو وفي نهاية المطاف ليس حالة خلاص. تجد كل من حاول سبر أغواره انتهى عالقًا فيه. نيتشه، على سبيل المثال، أراد تحطيم الأوهام وادعاء القوة، لكنه في النهاية وقع في فخ أفكاره، محاصرًا بهذيانات العظمة، وكذلك شوبنهاور، الذي لم يرى في الحياة سوى شر وقباحة يجب تحملها، لم يدرك أنه كان، دون أن يشعر، يمنحها معنى حتى في رفضه وتشويهه لها.

كذلك الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، فقد كان مثالًا على كيف يمكن للفكر أن يتحول إلى سجن صاحبه. فهو أفضل من تحدث وتغنى عن الحرية في فلسفاته، وعن عقيدة الوجود الذي يتحدد من خلال الفعل، لكنه لم يكن قادرًا على تقبل أن يفكر الآخرون بحرية لا تناسبه. كان يرى نفسه فيلسوف الالتزام، لكنه لم يحتمل فكرة أن صديقه الأخر البرت كامو رفض الالتزام كما رآه هو.

ولم يكن النقاش بينهما مجرد خلاف فكري، بل كان إعلانًا عن أن سارتر، رغم كل تنظيراته عن الحرية، لم يكن مستعدًا لتقبلها عندما تأخذ شكلًا أخر لا يروق له. لأنه وفي نهاية المطاف الوعي ليس سوى فوضى. وليس حالة روحانية أو عقلية كما يظنها البعض.
لا داعي لشرب البحر كله لتدرك أنه مالح. حقيقة بسيطة، لكنها تميط الستار عن المفهوم الكلي للتجارب الإنسانية عمومًا. هناك تجارب تلوح بالفشل منذ بدايتها ولكننا نولج فيها فيصيبنا شيء من الندم والهزيمة، تجعلنا نتمنى لو استطعنا انتزاعها من داخلنا كما لو أنها لم تحدث. ولكن هل تعني هذه المرارة أنه يجب علينا الابتعاد عن البحر تمامًا، فقط لأن مرارته تعذبنا؟

بالنسبة لي، لا. فالتجربة، حتى وإن كانت قاسية ومؤلمة، تظل ضرورية. ومن منظور آخر، يمكننا القول إنه لا بد أن نتذوق مرارة البحر حتى نفهم عذوبة الأنهار أكثر. لكن قبل الاستفاضة في الحديث، لماذا نرى البحر مالحًا والنهر عذبًا؟ ولماذا تبدو بعض التجارب قاسية بينما تبدو أخرى لطيفة؟

من الناحية العلمية، البحر مالح لأنه يحمل في جوفه كل ما تجرفه الأنهار من شوائب ورواسب (تراكم).إنه المستودع الذي تصب فيه الأنهار، فيصبح بذلك- البحر- السبب الخفي لعذوبتها وتكون الأنهار أحد أسباب مرارته. أما الأنهار، فتظل عذبة لأنها متجددة، لا تتوقف عن الحركة، ولا تتشبث بما يعبر من خلالها.

وإذا نظرنا إلى التجربة الإنسانية من هذا المنظور، نجد أن التجارب القاسية تتراكم وتترابط مع بعضها البعض ولكنها تظل جزء من نسيج تكوين الانسان. شيء يشبه الغربلة التي تميز بين ما يجب أن يبقى وما يجب أن يذهب.

وهذا لا يعني أن علينا أن نغرق في البحر لنقدّر عذوبة النهر. فالحكمة ليست في الرفض التام ولا في التسليم المطلق، بل في الفهم. ومعرفة أن البحر سيظل مالحًا وأن النهر رغم حلاوته ينتهي فيه.
يرتد صوت الآخرين فيها
كانت تحسبه لها…
غريبة، بعيدة،
مبعثرة في جوفِ المحطات الهلامية
وفي رأسها تشتعلُ حروب الابجدية.


تنسل من عقيدة اللغة
من جسدها المستعار،
من ضُروب المجاز.

كانت غارقة،
وحين بُعثت، انبثقت من الظلَّ
تنفض الغبارَ عن كتفيها،
عن القصيدةِ المحنطة في جبينها،
عن الدفاتر القديمة،
وعن اسمها العالق كالرمال في حنجرتها السقيمة.

من أين جاءت؟
وكيف جُسدت هكذا من رُفاتِ فكرة تغوص في الفراغ
تنبثق، وتتصاعد كالنور،
كالنهار.

ها هي ،
تحمل اسمها،
ولكأن له معنىً جديدًا.
تحفظ وجهها
ترسمه على الماء
فيهرول النهر بعيدًا، يحمل بظمأ نبأ الولادة الجديدة.
يحدث أحيانًا أن يجد الإنسان نفسه هامشيًا في قصة لا تخصه تمامًا، ليس عشيقًا، ليس محبوبًا، ليس صديقًا، ولا غريبًا بالكامل، بل ذلك "الخيار الآخر" الذي لا يُختار إلا عندما تستنفد الاحتمالات، ذلك الطرف الثالث الذي لا يحضر إلا كضرورة مؤقتة ولا يُلتفت إليه إلا عند الحاجة.

يُفرض على بعض الاشخاص أن يعيشوا في الظل أحيانًا، ليس لأنهم أرادوا ذلك بل لأنهم وضعوا هناك عنوة. لا أحد سيختار أن يكون بديل، ولكن الإنسان يلقى في مثل هذه الأدوار كما يُلقى النرد.

وفي الحب شيء يشبه الوجود، يعذبك حين تدرك أن دورك ليس محوريًا، وأنك لم تمنح وسام البطولة هنا، بل كُتب عليك بسخط أن تعيش في الحواف، وأن تتزامن مع التوقيت الخاطىء.

ولكن، أليس في ذلك حكمة ما؟ أن تكون الطرف الثالث يعني أنك خارج اللعبة، خارج الحسابات، بعيد عن الاحتمالات والحتميات التي تصنع من الحب قيدًا ثقيلاً، أنت لست مضطرًا إلى أن تحمي شيء أو تخشى انهياره. أنت لست مجبرًا على دفع عجلة البدايات، ولا على تحمل عبء النهايات.

لا تُطَالب بشيء، لا تعود ولا تُعَاتب، أن تكون في المشهد دون أن يتذكر أحد ذلك تمامًا، عابر، غريب، ولا بأس في ذلك. لأنه وببساطة حين يرتب الحب أدواره، لا يعترف بالعدالة.
HTML Embed Code:
2025/06/28 01:31:03
Back to Top