TG Telegram Group Link
Channel: الغازي محمد
Back to Bottom
Forwarded from سَعيد
"حُبّ الكِفايَة مِفتاحُ المَعجَزة".

عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-
الإنسان يخجل والله من الكتابة عن شيء يتعلّق بما "بعد" المعركة، والدماء لا زالت تجري والجروح لم تلتئم .. لكنها فكرة لو أفلتت منّي لا أدري أتعود لي أم لا ..
عطفًا على الكلام والمبادرات المباركة الجميلة التي تتحدث عن "تغيير الحياة" بعد الطوفان، وعن هجران التفاهة والانشغال بالعمل والانهمام بأمور المسلمين والعيش في حالة "دائمة" من الأثر النفسي والاجتماعي الذي أحدثه الطوفان فينا .. وهي حالة مشاهدة في أماكن مختلفة وعند فئات مختلفة وبأشكال مختلفة وتحت بنى اجتماعية وسياسية مختلفة جدًا، وهذه الحالة، بهذا الزخم وبهذا المعنى، تجعل الطوفان يتجاوز أفق الحدث ويتحول إلى "حالة مستمرة" وهو بهذا المعنى وبهذا المحدد حدث تاريخي .. بمعنى أن التاريخ انقسم بفعله لفترتين، سابقة عليه، وتالية له، وهذا الانقسام ليس انقسامًا حدثيًا محضًا يكتبه المؤرخون ويحكيه الناس، لكنه انقسام في الوعي، لحظة تشرخ جدار الإدراك القديم وتفكك أجهزة مفاهيمية وهوياتية وتحلّ محلها أخرى، و"استمراره" بهذا المعنى متجاوز للمعركة ونتائجها، أو بالأحرى، هو استكمالها ومتابعتها في غير ميدان الحرب المباشرة..

لكن الذي يعنيني من هذه الظاهرة بالتحديد هو الاتجاه الذي ستأخذه، وبلا شك أن لكل فرد ما عاشه ويعيشه على مستواه العاداتي والاجتماعي - بل والفكري - ما غيرّه وسيغيره .. لكن المهم يبقى في أي سؤال سيفرضه علينا هذا الانشقاق في الوعي .. إذا ما أردنا أن يكون الطوفان فعلًا "مستمرًا" .. فلا يجب أبدًا أن ينتهي بنا الأمر عند هذا المستوى المتداول، بل علينا أن نعود نحو مستوى الأسئلة المركزية لحالتنا .. وما أعنيه بالخصوص، السؤال المركزي حول حالة العجز والشلل التي مسّتنا جميعًا.. هذه الحالة هي ببساطة سؤالنا الأساسي والمركزي، أجاب السادة المقاومون عن سؤال عجزهم الداخلي وأدّوا ما عليهم وزيادة .. وبقى لنا نحن سؤالنا ..
هذا السؤال لا يجب أن يعود سؤالًا ثقافيًا أو خطابيًا .. بل هو رفع لواقع تختلف أسمائه والمسمى واحد، أسماء من عينة "الاستعمار" و"الإمبريالية" أو "خضوع الطرف للمركز" أو "خضوع الجنوب العالمي مقابل الشمال العالمي" كلها أسماء لمسمى واحد هو واقعنا الموضوعي نفسه - بغض النظر عن المفاضلة بين هذه المقولات وقدرتها التفسيرية، فليس هذا ما أريده هنا - ..
نحن ببساطة نشهد أمام أعيننا واقع هذه المقولة، واقع أزمتنا التاريخية وواقع تبعيتنا وسؤال تحررنا، مكثفًا جدًا وفي أزمة تفتح أعين الناس عليه ..
هذا الواقع قد ينزلق بسهولة نحو فخ خطابي عن "تخلّفنا" وعن "خيانة حكّامنا" .. إلخ .. ببساطة تُخْفَى صورة واقعنا الموضوعي أو تُعمّى تحت أقنعة تعود بأزمتنا أو تحصرها في أزمة "فاعلين"، مهما كان، لا أزمة "بنية" يكون النظر إليها وتفكيكها هو السؤال الأصلي .. (لا إنكارًا لدور الفاعلين بالتأكيد، بل تأكيدًا على موقعه من المسألة، فلا بنية في الفراغ بلاشك)
نحن نشهد واقعًا تفاوض فيه دولة باسم المقاومة وتضغط لصالحها، هي نفسها تلك الدولة التي توجد فيها أكبر قاعدة للإمبريالية الأمريكية، القاعدة التي تدار منها الحرب الاستعمارية وتقع فيها قيادة المنطقة الوسطى .. بل وتعتبرها تلك القوة الإمبريالية نفسها "حليفًا استراتيجيًا"..
ونشهد فيه أن الدولة التي يقوم برلمانها بقطع العلاقات وخلافه، هي نفسها مقر أسطول هذه القوة الإمبريالية الدائم..
يمكننا ببساطة أن ننزلق نحو المسائل الخطابية حول "الإرادة" و"الخيانة" و"القوة" ونركّز مع تلك الصورة أو تلك ..إلخ، وننجر لمنطق المناكفة المباشر، لكن هذا لن يكون منتجًا، كما أنه لا يمكنه أن يفسّر أبدًا واقعًا بهذا التشابك ..

[يتبع]
الغازي محمد
الإنسان يخجل والله من الكتابة عن شيء يتعلّق بما "بعد" المعركة، والدماء لا زالت تجري والجروح لم تلتئم .. لكنها فكرة لو أفلتت منّي لا أدري أتعود لي أم لا .. عطفًا على الكلام والمبادرات المباركة الجميلة التي تتحدث عن "تغيير الحياة" بعد الطوفان، وعن هجران التفاهة…
[...]
هذه منطقة مستعمرة، ومبتلاة بـ"المستعمرة الأخيرة" في قلبها، وهذا الوضع هو الذي يجب أن نبدأ منه في الإجابة عن سؤالنا نحن .. عن موقعنا في العالم وعن تحررنا من هذا الموقع .. في هذا الواقع لا يكون سؤال "التحرر من الاستعمار" مسألة حربية صرفة (مفردات القوة المباشرة)، التي ثبتت أنها كجسم كاسح لكن لعقل كسيح منزوع الإرادة، بل يجب أن نفكّر في مفردات لا زال واقعنا يتعامل معها بوصفها مسألة "نخبوية" من عينة الرأسمالية ونظام الاقتصاد العالمي، وأنه يبدو أن دولة مديونة مثلًا يصعب أن تمتلك قرارها السياسي دون العودة المباشرة إلى "الدائن" في كل كبيرة - على الأقل - وفي كل صغيرة لو استلزم الأمر.. يعود الدّين مرة أخرى بوصفه "أداة سياسية" لا مجرد تبادل نقدي وعلاقة محكومة بمبادئ التجارة، وهكذا كذلك، نجد أنه لا يمكن لدولة (دول) مثلًا تشكلت خريطة اقتصادها السياسي على علاقتها بمركز العالم الإمبريالي الاقتصادي بأنها موفّر المادة الخام الأهم على الكوكب = لا يمكن لها أن "تشذ" عن هذا المركز - وإن أيدولوجيًا حتى - لفترة طويلة، لا يمكن لدولة تعتمد في التسليح والمصالح وبناء القوة ذات المغزى (اقتصاديًا وسياسيًا) على نفس هذا المركز، أن تصحو فجأة لتكون في صف أعدائه ..
لا يمكن أن نفكّر مثلًا في حالة "العداوة" لهذه الإمبريالية دون أن نفكّر في البديل الذي نرضاه لأنفسنا، في سؤال إرادتنا [المحلية] وخريطة وجودنا السياسي، حتّى لا نجد رجلًا قتل شعبه وهجّره يخرج علينا خطيبًا في نقد "الليبرالية" و"النظام العالمي" ليبدو لنا من بعيد أنه يجيب على نفس السؤال الذي نطرحه في التحرر وبنفس نقاط الحديث.. بينما هو يئد بيده ولسانه معًا مقدراتنا البشرية والسياسية ..

هذه هي المسائل التي يجب أن يحوّل الطوفان نظرنا إليها، وبها تعود أسئلتنا مرة أخرى منتجة ومؤثرة في واقعنا بشكل مباشر، وبها لا تعود "حياتنا" الطبيعية كما كانت، هذا في نظري هو "الطوفان" .. الطوفان الكبير، الذي ربما يبدأه الطوفان الغزّي، وربما يكون للطوفان الغزّي جولته، بينما يتأخر طوفاننا الكبير لأن الشرخ الذي أحدثه لم يكن كافيًا لأن يصل - بأيدينا - إلى سواحل "العالم الجديد" .. وكما أن الطوفان الغزّي ظّل في رؤوس وعقول وقلوب أهله زمنًا طويلًا حتى تمكنّوا منه، فليبق إذًا طوفاننا في رؤوسنا وعقولنا وقلوبنا ما أراد من الزمن، لكن لا يجب أن نعود أبدًا لطريقتنا البسيطة والمفككة والمشغولة بالأسئلة التي تكون في أحسن أحوالها جانبية أو بسيطة أو ترفض الاعتراف بالهزيمة واستلاب الإرادة وحالة التشابك والتعقّد البالغة التي تواجهنا والتي تعرقل سيرنا نحو الإجابة أو تشغلنا ببنيات الطريق .. أو أن نكتفي بإجابات هوياتية بسيطة ومباشرة تغرينا بحل مباشر ونهائي وبسيط من عينة "أن نصلح من أنفسنا" مثلًا أو أشياء كهذه ..
أو أن نكتفي مثلًا باعتبار أن ما حدث يكفي "لننتصر"، أو بالخطابات المبشّرة "بهشاشة النظام العالمي" أو خلافه، أو أن نقول مثلًا أن نجاح المقاومة العملياتي في غزة هو "نجاحنا" في التخلّص من إسار هذه البنية .. نجاحهم لهم، أما نحن، فطريقنا لا يزال طويلًا بل ربما لم نبدأ بعد!

البداية تكون من أن نتوجه نحو السؤال الأساسي، مرة أخرى..
ولا يمكنني بالتأكيد أن أتساذج أو أتلبس بحالة منبرية فأقول أن معالم الإجابة واضحة أو أن طريقها مسلوك معبّد، هذه الكلمة معنية "بالاتجاه" لا "بالخريطة" ..
📖 التحرير والتنوير، المجلّد الثاني — محمد الطاهر بن عاشور — [415،416] (ط.ابن حزم)
يبدو أن البعض قد أعاد قراءة برنامج البروباجندا البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى وقرر إعادة نفس الكذبات بحذافيرها دون أي ابتكار، كالعادة، لصوص حتّى في البروباجندا ..
(يتحدث النص عن تغير موقف الإيطاليين من الحرب، ويعزو ذلك جزئيًا إلى أثر كذبات اخترعتها آلة البروباجندا البريطانية، عن "الانتهاكات المروّعة" التي قام بها الألمان ضد البلجيكيين، وضمن الكذبات نجد كذبتين مألوفتين في أيامنا هذه: أطفال رضّع قطعت أياديهم، ونساء قطعت أثدائهن) ..

📖Elusive Dove: The Search for Peace During World War I — Neil Hollander — [131]
"أنا الآن في طريقي إلى هولندا مسافرًا .. وما قرأته في الصحف الفرنسية والمحلية على السواء لا يكشف إلّا عن أن ألمانيا قد غرقت في مستنقع وأن المستقبل لا يحمل إلا المزيد من الغرق فيه. وإنني أؤكد لك أنه لو لم أكن لأشعر بمشاعر فخر وطنية، فإنني الآن أشعر بعار وطني. [....]
وقد كان هذا كشفًا جديدًا لي، رغم أنه كشفٌ سلبي، إلّا أن الحقيقة لا مفرّ منها، حقيقة تكشف لنا عن خواء وزيف نزعتنا الوطنية، وتكشف لنا الطبيعة المنحطّة لدولتنا، كشف يدفعنا أن نخبئ أوجهنا من العار.
وكأني بك الآن وأنت تبتسم وتقول لي: وأي فائدة في أن نخبئ أوجهنا من العار؟، إن الثورات لا تبنى على الشعور بالعار.
وجوابي هو أن الشعور بالعار ثورة في حد ذاته [...] فالشعور بالعار ما هو إلا شعور بالغضب ارتد على نفسه، ولو قدّر لأمة بأجمعها أن تشعر بالعار، لكانت مثل أسد نكص للوراء ليستجمع قواه ويثب منطلقًا للأمام"

— ماركس، 1843
في رسالة لأرنولد روجه
📖 زاد المعاد — ابن القيم — [ج:3، ص:822،823]
"وكأنما نسي تمامًا كل ما قاله عن أساليب الحيلة.."

من رواية قلب الظلام، ت:أحمد خالد توفيق.
«ما العقلُ إلّا خادم الأهواء»
Forwarded from سَعيد
‏يقول أهل التّأثيل إنّ اسم كارْل في الألمانيّة هو مرادف اسمَي تشارْلز Charles وشارْل في الإنݠليزيّة والفرنسيّة (أو الفرنجيّة إن شئت)، وأصلها جميعًا من اللّغة الجرمانيّة البِدائيّة اسم كارِلاز karilaz* (ᚲᚨᚱᛁᛚᚨᛉ بأحرف الأبجديّة الرّونيّة)، ويَعني الحُرّ.

وأمّا اسم مارْكس Marx فيقولون إنّه مأخوذ من اسم ماركُس Marcus (أو مَرقُس)، ومعناه أنّ المُسمّى به متّصل بإله الحرب الرّوميّ مارْس Mars الذي سُمّي باسمه كوكب المِرّيخ في الإنݠليزيّة.

فلو أنّ كارْل مارْكس قُطع سُرّه بين العرب لربّما كان اسمه: الحُرّ بن مَرقُس، أو الحُرّ بن امرئ القيس في لغة.
أو يكون اسمه: الحُرّ بن بَهْرام؛ وبَهْرام اسم كوكب المِرّيخ ورَبّ الحرب عند الفُرس، وقد عُرّب قديمًا،
أو يكون الحُرّ بن مِرّيخ.
إنه لكِفاحٌ قلّما تكفيه حياةٌ واحدة: أن يقول الإنسان فكرة واحدة حيّة!
الاقتباس من:
📖 رأسمالية المحاسيب، دراسة في الاقتصاد الاجتماعي — محمود عبد الفضيل
نصٌ ذهبيّ

"أخيرًا، أقف مع سؤال الالتزام والموضوعية.

بداية أقول أنني لا أعتقد أن ثمّة علم اجتماعي، أيًا كان، إلا وهو ملتزم [أيدولوجيًا]. إلّا أن هذا لا يعني بالضرورة أن الموضوعية غير ممكنة مع ذلك.
ولكن ما الذي نقصده تمامًا بهذه المصطلحات؟ الموضوعية والالتزام؟
في القرن التاسع عشر، قامت ثورة ضد الطريقة الخيالية الحكواتية التي كان يكتب بها التاريخ، وتولّد عن هذه المرحلة المبدأ الفكري الذي ينص على حكاية التاريخ كما وقع حقيقة وفعلًا (wie es eigentlich gewesen ist)، لكن المعضلة تبقى أن الواقع الاجتماعي أو الحقيقة الاجتماعية هي بطبعها سريعة التغيّر والتبدّل. فهي توجد فقط في الحاضر، وشيئًا فشيئًا تنتقل إلى حيّز الماضي وتختفي فيه. ولا يمكننا بعد ذلك أن نحكي هذا الماضي لا كما كان، بل كما "يكون"، أي أننا لا نحكي الماضي بعد أن يصبح ماضيًا إلا في طور حكاية، هذه الحكاية هي فعل اجتماعي في الحاضر، يقوم به رجال من أبناء هذا الحاضر، وتؤثر في النظم الاجتماعية لهذا الحاضر.

وبهذا فإن هذه "الحقيقة [الاجتماعية]" تتغير كلما تغيّر المجتمع نفسه. وعلى أي نقطة وقفت في مسار الزمن، لا يوجد شيء في الحقيقة يتوالي أو [يتتابع من الماضي إلى الحاضر]، بل كل شيء يتعاصر ويتزامن، بما في ذلك ما كان في الماضي. وطالما أننا في الحاضر، فنحن جميعًا نتاج لخلفياتنا، وطرق تدريبنا، وطبائع شخصياتنا، وأدوارنا الاجتماعية، ولكل تلك المحددات البنيوية التي نعمل تحت وطأتها. ولا يعني هذا ضرورة أننا لا نملك أي خيارات أمام هذه المحددات، بل العكس تمامًا. فأي نظام اجتماعي، والمؤسسات التي تشكله - بما في ذلك الدولة الحديثة ذات السيادة التي عرفها العالم الحديث - كل هذا يتشكل عبر نقطة التقاء مجموعة من المجموعات الاجتماعية معًا، عبر تواصلها، وتحالفها، والأهم من ذلك، عبر تصارعها معًا. وبما أننا جميعًا ننتمي إلى عدد من هذه المجموعات، يصبح لزامًا علينا عادة أن نتخذ قرارات وفقًا لترتيب هذه المجموعات في الأولوية والولاء عندنا. والعلماء والباحثون ليسوا استثناء أبدًا من هذا الالتزام. بل وليس هذا الالتزام محصورًا أو ظاهرًا فقط في قراراتهم التي لا علاقة لها بعملهم العلمي أو البحثي أو ذات الطابع السياسي المباشر، بل هو يشمل كل قرار.

ولا شك أن موقع العالم أو الباحث يستلزم منه أن يؤدي دورًا معينًا ضمن النظام الاجتماعي المخصوص. وهو دور يختلف كثيرًا عن أن يكون مدافعًا عن قضية بعينها أو مجموعة بعينها. ولا أقصد هنا أبدًا أن أقلل من دور الناشط المدافع أو الداعية لقضية بعينها. بل هو دور ضروري وشريف، لكنه لا يشبه دور العالم أو الباحث. إن دور هذا الأخير هو أن يبيّن ويسكتشف - على ضوء التزاماته و[انحيازاته] - حقيقة الظاهرة التي يدرسها في الحاضر، ليستخلص من هذه الدراسة مبادئ عامة يمكن فيما بعد أن تستخدم في تطوير تطبيقات عملية على هذه المبادئ. وبهذا نفهم أنه ما من موضوع أو مساحة دراسة إلا وهو "متعلّق" بالحاضر بشكل ما. ففهم الديناميكيات الاجتماعية لعصرنا الحاضر، غير ممكن أبدًا إلّا بفهم نظري مبني على أوسع قاعدة ممكنة من أوجه فهم ودراسة الظاهرة، وهو ما يشمل المادة التاريخية كلها بشقيها الزماني والمكاني.

وعندما أقول "حقيقة الظاهرة في الحاضر"، فإنني لا أعني بهذا أن هدف الدراسة يجب أن يكون [تزييف التاريخ لصالح الحاضر]، كأن يكون هدفها مثلًا تدعيم رأي سياسي للحكومة، بحيث يزعم أركيولوجي مثلًا أن حفرية ما تعود لأناس بعينهم، بينما يرى في الحقيقة أنها تعود لغيرهم. ليس هذا ما أعنيه، ما أعنيه هو أن هذا العلم برمّته، من أهدافه، إلّى الاستثمار الاجتماعي المبذول في مثل هذا النشاط العلمي، إلى أدواته المفاهيمية، إلى طرائق متابعة النتائج والإفصاح عنها = كل هذا، جميعه، من إنتاج الواقع الاجتماعي المعاصر والحاضر. ومن ظنّ خلاف ذلك فإنما يخادع نفسه. فالموضوعية هي إذًا باختصار: الالتزام بالأمانة ضمن إطار وبنية اجتماعية بعينها.

وبهذا نفهم الموضوعية على أنها تابعة للنظام الاجتماعي المخصوص بمجموعه. ولو كان هذا النظام معيبًا أو غير متوازن، فإن النتيجة الطبيعية لتركيز مجموعة من أنواع البحث الاجتماعي في يد مجموعة مخصوصة من الناس، ستكون بالضرورة أن تصدر نتائج هذه البحوث "منحازة" إلى هذه المجموعات بعينها.
والموضوعية إذًا بهذا المعنى ليست أكثر من أن نضمن توجيه الاستثمار الاجتماعي في أنشطة [البحث الاجتماعي] بطريقة تضمن أن تتوزع هذه الأنشطة بشكل متوازن بين أفراد ينتمون للمجموعات الكبرى والأساسية في النظام—العالم. وفي ضوء هذا التعريف وهذا الفهم، يمكننا أن نقول أننا لا نمتلك اليوم بأي حال من الأحوال علمًا اجتماعيًا موضوعيًا. [إذ أنه غير موزّع بشكل متوازن]، لكن هذا لا يعني أننا لا يمكن أن ننشيء مثل هذا العلم في المستقبل المنظور.

[يتبع]
[تكملة]

كما سبق وذكرت، فإن دراسة النظم—العالم بالخصوص معقّدة لاستحالة وجود سابقة تاريخية للمقارنة على أساسها. لكنها معقّدة كذلك لأن الآثار الاجتماعية للتقريرات التي نقولها عن النظام-العالم يفهمها بوضوح كل اللاعبين الكبار في الساحة السياسية. وتبعًا لذلك فإن الضغوط التي تمارس على العلماء والباحثين في هذا الحقل كبيرة جدًا وغالبًا ما تأخذ شكل تحكمّ اجتماعي شديد نسبيًا في أنشطتهم وأعمالهم. وهو ما يفسّر تردد وإحجام العلماء عن القيام بنشاط ما في هذا الحقل.

لكن هذه الصعوبات لا تدفعنا في الحقيقة إلّا إلى المزيد من الإقبال على هذا التحليل وتعطينا المزيد من الأسباب للقيام به. فمقدرة الإنسان على أن يسهم في تطوّر النظام الاجتماعي الذي يعيشه تعتمد كليًا على قدرته على أن يرى الأشياء في كليتها. وكلما كانت المهمة أصعب، كلما توجّب علينا أن نقوم بها في أقرب وقت ممكن. ولا يخفى علينا بالتأكيد أن مهمة كهذه لا تصبّ في مصلحة جميع المجموعات الاجتماعية. وهاهنا، يظهر التزامنا. ويظهر تصوّرنا عن المجتمع الجيّد. فإن كنّا نريد مجتمعًا أكثر مساواتية وحرية، فلا بد أن نفهم ونعي الشروط التي يمكن من خلالها أن تتحقق هذه التصورات. ومهمة كهذه تستلزم أولًا عرضًا وشرحًا واضحًا لطبيعة وتطور النظام-العالم الحديث ليومنا هذا، ومن ثمّ نتعرّف على كل التطوّرات الممكنة في الحاضر والمستقبل. هذه هي المعرفة التي تستحيل قوة. وفي إطار التزاماتي وانحيازاتي فإن قوة كهذه ستكون مفيدة أكثر ما تكون لتلك المجموعات التي تمثّل مصالح غالب سكان الأرض من المقهورين.

وعلى هذا الأساس، بدأت رحلتي لتحليل العناصر الأساسية للنظام-العالم الحديث. وهو جهد سيستلزم عدة مجلّدات لأتمّه في صورة مبدئية عامة فقط.
[...]
لقد أضحت العلوم الاجتماعية اليوم محصورة في دراسة المجموعات والمؤسسات، هذا إن لم تتحول إلى علم نفس اجتماعي مقنّع باسم الدراسة الاجتماعية. إلّا أن هذا العمل لا يدرس المجموعات، بل النظم الاجتماعية. وعندما ندرس النظم الاجتماعية تصبح التقسيمات الكلاسيكية في العلوم الاجتماعية عديمة الفائدة. فتقسيم العلوم الاجتماعية إلى أنثروبولوجي، واقتصاد، وعلوم سياسية، وسوسيولوجي، وتاريخ، هو تقسيم يقوم على مفهوم ليبرالي بالأساس حول الدولة وعلاقتها بالمجالات الوظيفية والجغرافية للنظم الاجتماعية. وبالتالي، تكون فائدة هذه التقسيمات محدودة عندما ندرس المؤسسات، وتكون معدومة تمامًا إذا ما كان موضوع دراستنا هو النظام الاجتماعي. ولا يذهبنّ بك الظن أني أنادي هنا بدراسة "متعددة التخصصات" للنظم الاجتماعية، بل إنني أنادي بدراسة "متجاوزة للتخصصات". وأرجو أن يكون المحتوى الموضوعي لهذا الكتاب كاشفًا عن ما أعنيه بهذه العبارة، وعلى أي قدر من الجدية أتعامل معها. "

📖 The modern world-system I — Immanuel Wallerstein — [8-11]
ترجمتي.
ثمّة أشياء لا ينبغي للمرء أن يطلب معرفتها قطّ، فالحكمة ترشدنا إلى حدود كل شيء، بما في ذلك حدود المعرفة.
— نيتشه

📖 Twilight of the Idols
HTML Embed Code:
2024/06/08 13:20:27
Back to Top