Channel: قناة | توّاق
••
•| تآكل الأرض في الوحي |•
قال تعالى: ﴿أَوَلَم يَرَوا أَنّا نَأتِي الأَرضَ نَنقُصُها مِن أَطرافِها وَاللَّهُ يَحكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكمِهِ وَهُوَ سَريعُ الحِسابِ وَقَد مَكَرَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم فَلِلَّهِ المَكرُ جَميعًا يَعلَمُ ما تَكسِبُ كُلُّ نَفسٍ وَسَيَعلَمُ الكُفّارُ لِمَن عُقبَى الدّارِ﴾ [الرعد: ٤١–٤٢]
في هذه الآية الجليلة، تتجلّى هندسة ربّانية دقيقة لسُنن التآكل والتمكين؛ حيث لا تأتي الهزائم بضربة واحدة، ولا تسقط الحضارات دفعةً واحدة، بل تبدأ الأطراف بالتفكك، شيئًا فشيئًا، في تآكل صامت لا يُرى في خرائط النشرات، بل يُدرك ببصيرة السنن.
وقال السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات: ثم قال متوعِّدًا للمكذبين: ﴿أو لم يروا أنا نأتي الأرضَ ننقُصُها من أطرافها﴾: قيل: بإهلاك المكذبين واستئصال الظالمين.وقيل: بفتح بلدان المشركين ونقصهم في أموالهم وأبدانهم، وقيل غير ذلك من الأقوال.
والظاهر ـ والله أعلم ـ أنَّ المراد بذلك أنَّ أراضي هؤلاء المكذِّبين جعل الله يفتحها ويجتاحها ويُحِلُّ القوارع بأطرافها تنبيهًا لهم قبل أن يجتاحهم النقص ويوقع الله بهم من القوارع ما لا يردُّه أحدٌ، ولهذا قال: ﴿والله يحكم لا مُعَقِّبَ لحكمِهِ﴾
ويدخل في هذا حكمه الشرعيُّ والقدريُّ والجزائيُّ؛ فهذه الأحكام التي يحكم الله فيها توجد في غاية الحكمة والإتقان، لا خلل فيها ولا نقص، بل هي مبنيَّة على القسط والعدل والحمد؛ فلا يتعقَّبها أحدٌ، ولا سبيل إلى القدح فيها؛ بخلاف حكم غيره؛ فإنَّه قد يوافق الصواب وقد لا يوافقه. ﴿وهو سريع الحساب﴾؛ أي: فلا يستعجلوا بالعذاب؛ فإنَّ كل ما هو آتٍ فهو قريبٌ.
••
•| تآكل الأرض في الوحي |•
قال تعالى: ﴿أَوَلَم يَرَوا أَنّا نَأتِي الأَرضَ نَنقُصُها مِن أَطرافِها وَاللَّهُ يَحكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكمِهِ وَهُوَ سَريعُ الحِسابِ وَقَد مَكَرَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم فَلِلَّهِ المَكرُ جَميعًا يَعلَمُ ما تَكسِبُ كُلُّ نَفسٍ وَسَيَعلَمُ الكُفّارُ لِمَن عُقبَى الدّارِ﴾ [الرعد: ٤١–٤٢]
في هذه الآية الجليلة، تتجلّى هندسة ربّانية دقيقة لسُنن التآكل والتمكين؛ حيث لا تأتي الهزائم بضربة واحدة، ولا تسقط الحضارات دفعةً واحدة، بل تبدأ الأطراف بالتفكك، شيئًا فشيئًا، في تآكل صامت لا يُرى في خرائط النشرات، بل يُدرك ببصيرة السنن.
وقال السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات: ثم قال متوعِّدًا للمكذبين: ﴿أو لم يروا أنا نأتي الأرضَ ننقُصُها من أطرافها﴾: قيل: بإهلاك المكذبين واستئصال الظالمين.وقيل: بفتح بلدان المشركين ونقصهم في أموالهم وأبدانهم، وقيل غير ذلك من الأقوال.
والظاهر ـ والله أعلم ـ أنَّ المراد بذلك أنَّ أراضي هؤلاء المكذِّبين جعل الله يفتحها ويجتاحها ويُحِلُّ القوارع بأطرافها تنبيهًا لهم قبل أن يجتاحهم النقص ويوقع الله بهم من القوارع ما لا يردُّه أحدٌ، ولهذا قال: ﴿والله يحكم لا مُعَقِّبَ لحكمِهِ﴾
ويدخل في هذا حكمه الشرعيُّ والقدريُّ والجزائيُّ؛ فهذه الأحكام التي يحكم الله فيها توجد في غاية الحكمة والإتقان، لا خلل فيها ولا نقص، بل هي مبنيَّة على القسط والعدل والحمد؛ فلا يتعقَّبها أحدٌ، ولا سبيل إلى القدح فيها؛ بخلاف حكم غيره؛ فإنَّه قد يوافق الصواب وقد لا يوافقه. ﴿وهو سريع الحساب﴾؛ أي: فلا يستعجلوا بالعذاب؛ فإنَّ كل ما هو آتٍ فهو قريبٌ.
••
••
العلمنة لا تبدأ من البرلمان، بل من الفِكر، من اختلال زاوية النظر، من جعل “رضا الناس” معيارًا، و”المقبول اجتماعيًا” حاكمًا، و”حرية الفرد” بديلاً عن أوامر الله.
العلمنة لا تصرخ في وجه الدين، بل تُصافحه أولاً، ثم تُفرّغه من مضمونه، وتُبقيه غلافًا روحيًا لا يتدخّل في الاقتصاد ولا الأخلاق ولا الذوق العام، هي لا تطلب منك أن تكفر، بل أن “تؤمن بصمت”، أن تسجُد لله في محرابك، ثم تسجُد لقيم السوق في عملك، أن تُصلي بدموع، ثم تُبرر الباطل بلغة “الحرية”.
تُعيد تعريف كل شيء:
• العبادة؟ شأنٌ ذاتي لا علاقة له بسلوكك في السوق أو ساحتك الإعلامية.
• الحلال والحرام؟ منظومة قديمة قابلة للتحديث.
• الغيرة على الدين؟ تطرّف.
• الولاء والبراء؟ خطاب كراهية.
• الحياء؟ عقد نفسية.
• الحجاب؟ خيار جمالي.
• الدعوة؟ تُقدّم فقط إن لم تُزعج
وما نزل الوحي، وما بُعث الرسل، وما نُصبت الحُجج، لتكون العلاقة بين العبد وربّه علاقة وجدانية معزولة عن الواقع، بل نزل القرآن ليُعلّمك كيف تحيا، وكيف تُقيم سوقًا بإيمان، وكيف تُنكر المنكر، وتُسمّي الأشياء بأسمائها، وتمضي في طريقك ولو خالفك العالم.
••
العلمنة لا تبدأ من البرلمان، بل من الفِكر، من اختلال زاوية النظر، من جعل “رضا الناس” معيارًا، و”المقبول اجتماعيًا” حاكمًا، و”حرية الفرد” بديلاً عن أوامر الله.
العلمنة لا تصرخ في وجه الدين، بل تُصافحه أولاً، ثم تُفرّغه من مضمونه، وتُبقيه غلافًا روحيًا لا يتدخّل في الاقتصاد ولا الأخلاق ولا الذوق العام، هي لا تطلب منك أن تكفر، بل أن “تؤمن بصمت”، أن تسجُد لله في محرابك، ثم تسجُد لقيم السوق في عملك، أن تُصلي بدموع، ثم تُبرر الباطل بلغة “الحرية”.
تُعيد تعريف كل شيء:
• العبادة؟ شأنٌ ذاتي لا علاقة له بسلوكك في السوق أو ساحتك الإعلامية.
• الحلال والحرام؟ منظومة قديمة قابلة للتحديث.
• الغيرة على الدين؟ تطرّف.
• الولاء والبراء؟ خطاب كراهية.
• الحياء؟ عقد نفسية.
• الحجاب؟ خيار جمالي.
• الدعوة؟ تُقدّم فقط إن لم تُزعج
وما نزل الوحي، وما بُعث الرسل، وما نُصبت الحُجج، لتكون العلاقة بين العبد وربّه علاقة وجدانية معزولة عن الواقع، بل نزل القرآن ليُعلّمك كيف تحيا، وكيف تُقيم سوقًا بإيمان، وكيف تُنكر المنكر، وتُسمّي الأشياء بأسمائها، وتمضي في طريقك ولو خالفك العالم.
••
••
لماذا نطلب العلم في أوقات الفتن؟
لأن لحظة الفتنة لا تُجامل، ولا تؤخر حسابها، بل تكشف الإنسان على حقيقته، وتضعه في مواجهة مباشرة مع رصيده المعرفي وتكوينه الداخلي.
وهذه زمرة أسباب تجعل طلب العلم ضرورة في لحظة الاضطراب:
١-لأن العلم يُقيم الوعي على أرض صلبة، فيجعل الإنسان يرى الأشياء بأحجامها الحقيقية، لا كما تصوّرها الحشود أو تشوّهها العاطفة.
٢-لأنه يعصم القلب من الاندفاع والتسرّع، فيمنح الموقف اتزانًا، ويصوغ ردة الفعل بميزان من نور الشرع لا فوضى الشعارات.
٣-لأن العلم يُبصّر الإنسان بتاريخ السنن الإلهية، فيربطه بجذور الأحداث، ويكشف له طبيعة المراحل، فلا يُفجَع بالمفاجآت ولا يُستدرج بالسطور الأولى.
٤-لأنه يرسّخ المرجعية بالوحي في التفكير، فلا تُساق القضايا بمعايير السوق أو المزاج أو الغضب، بل تُوزن بميزان “قال الله وقال رسوله”.
٥-لأن العلم يمنح الإنسان مفاتيح التمييز بين الظاهر والجوهر، فيميّز بين الخطاب الناصح والمخطوف، وبين الحق الخافت والباطل الصاخب.
٦-لأنه يُربي في طالب العلم نزاهة الانتماء، فلا يتعصّب لحزب ولا ينحاز لفئة، بل يكون من جند الحق حيثما نزل.
٧-لأنه يثبّت الأقدام حين تُخلخلها الأحداث، فالراسخ في العلم هو الذي يبقى على الجادة، حين تزلّ الأفهام وتتزاحم التأويلات.
٨-لأن العلم يحرّر من أسر اللحظة، ويُعيد تشكيل الشعور وفق مقاصد الشريعة، لا على ردود الفعل العابرة.
٩-لأنه يُعلّمك الصبر على الطريق، فتبني مواقفك على رؤية بعيدة، لا على تقلبات الإعلام أو انفعالات المجالس.
١٠-العلم يُوجّه العاطفة نحو الحق: فهو لا يُطفئ حرارة الإيمان، بل يُهذّبها ويصوبها، حتى لا تتحول إلى غوغائية أو تعصّب.
١١-العلم يمنح شجاعة الفهم: فالفقيه لا يضطرب من المعركة الفكرية، لأنه يمتلك أدوات النظر، فيبصر العمق وسط السطحية، والمسار وسط الفوضى.
١٢-العلم يُعيد ترتيب الأولويات: فلا يضيع الجهد في معارك جانبية، بل يُوجّه طاقة الإنسان نحو ما يُرضي الله ويُصلح الخلل.
١٣-العلم يورث الطمأنينة: إذ يربط القلب بوحي الله، ويُزيل التردد، ويمنح النفس سكينة عند المفترقات الحادّة.
١٤-العلم يُمهّد للنهضة بعد الزلزلة: لأن من لم يتعلم وقت الاضطراب، لن يكون قادرًا على المساهمة في البناء وقت الاستقرار.
١٥- لأن العلم يرمّم الداخل حين يتصدّع الخارج: ففي زمن الانهيارات النفسية، يكون العلم الربّاني صمّام التماسك، يَشدّ الإنسان من داخله حين تنفلت أطرافه من حوله.
وهكذا يغدو العلم في الفتن روحًا تبعث في القلوب رشدها، وتستجمع شتات النفوس حين ترتجّ بها الأحوال وتشتدّ بها الأهوال، إذ هو الميزان الذي يزن الأمور بميزان الحق، والسراج الذي يُنير السبيل عند غشاوة الطرق، واليد التي تأخذ بالعقول من مدارج الوهم إلى ذرى اليقين.
••
لماذا نطلب العلم في أوقات الفتن؟
لأن لحظة الفتنة لا تُجامل، ولا تؤخر حسابها، بل تكشف الإنسان على حقيقته، وتضعه في مواجهة مباشرة مع رصيده المعرفي وتكوينه الداخلي.
وهذه زمرة أسباب تجعل طلب العلم ضرورة في لحظة الاضطراب:
١-لأن العلم يُقيم الوعي على أرض صلبة، فيجعل الإنسان يرى الأشياء بأحجامها الحقيقية، لا كما تصوّرها الحشود أو تشوّهها العاطفة.
٢-لأنه يعصم القلب من الاندفاع والتسرّع، فيمنح الموقف اتزانًا، ويصوغ ردة الفعل بميزان من نور الشرع لا فوضى الشعارات.
٣-لأن العلم يُبصّر الإنسان بتاريخ السنن الإلهية، فيربطه بجذور الأحداث، ويكشف له طبيعة المراحل، فلا يُفجَع بالمفاجآت ولا يُستدرج بالسطور الأولى.
٤-لأنه يرسّخ المرجعية بالوحي في التفكير، فلا تُساق القضايا بمعايير السوق أو المزاج أو الغضب، بل تُوزن بميزان “قال الله وقال رسوله”.
٥-لأن العلم يمنح الإنسان مفاتيح التمييز بين الظاهر والجوهر، فيميّز بين الخطاب الناصح والمخطوف، وبين الحق الخافت والباطل الصاخب.
٦-لأنه يُربي في طالب العلم نزاهة الانتماء، فلا يتعصّب لحزب ولا ينحاز لفئة، بل يكون من جند الحق حيثما نزل.
٧-لأنه يثبّت الأقدام حين تُخلخلها الأحداث، فالراسخ في العلم هو الذي يبقى على الجادة، حين تزلّ الأفهام وتتزاحم التأويلات.
٨-لأن العلم يحرّر من أسر اللحظة، ويُعيد تشكيل الشعور وفق مقاصد الشريعة، لا على ردود الفعل العابرة.
٩-لأنه يُعلّمك الصبر على الطريق، فتبني مواقفك على رؤية بعيدة، لا على تقلبات الإعلام أو انفعالات المجالس.
١٠-العلم يُوجّه العاطفة نحو الحق: فهو لا يُطفئ حرارة الإيمان، بل يُهذّبها ويصوبها، حتى لا تتحول إلى غوغائية أو تعصّب.
١١-العلم يمنح شجاعة الفهم: فالفقيه لا يضطرب من المعركة الفكرية، لأنه يمتلك أدوات النظر، فيبصر العمق وسط السطحية، والمسار وسط الفوضى.
١٢-العلم يُعيد ترتيب الأولويات: فلا يضيع الجهد في معارك جانبية، بل يُوجّه طاقة الإنسان نحو ما يُرضي الله ويُصلح الخلل.
١٣-العلم يورث الطمأنينة: إذ يربط القلب بوحي الله، ويُزيل التردد، ويمنح النفس سكينة عند المفترقات الحادّة.
١٤-العلم يُمهّد للنهضة بعد الزلزلة: لأن من لم يتعلم وقت الاضطراب، لن يكون قادرًا على المساهمة في البناء وقت الاستقرار.
١٥- لأن العلم يرمّم الداخل حين يتصدّع الخارج: ففي زمن الانهيارات النفسية، يكون العلم الربّاني صمّام التماسك، يَشدّ الإنسان من داخله حين تنفلت أطرافه من حوله.
وهكذا يغدو العلم في الفتن روحًا تبعث في القلوب رشدها، وتستجمع شتات النفوس حين ترتجّ بها الأحوال وتشتدّ بها الأهوال، إذ هو الميزان الذي يزن الأمور بميزان الحق، والسراج الذي يُنير السبيل عند غشاوة الطرق، واليد التي تأخذ بالعقول من مدارج الوهم إلى ذرى اليقين.
••
••
| التوكل دواء الاحتمال |
في خارطة الابتلاءات، ليس أشدّ على النفس من أن تُزاحمها الأسئلة المفتوحة دون جواب، وتُحيط بها الاحتمالات من كل جانب، دون أن تُبصر للحقيقة وجهاً واحداً تسكن إليه، فالحقيقة، وإن كانت موجعة، تُسدل على النفس ستار الحسم، وتُقيم فيها مقام التصرف: إما بالتسليم، أو بالدعاء، أو بإتخاذ خطوات جادة لبر الأمان. أما الاحتمال؛ فذاك العالَم الرمادي الذي يُعطّل القرار، ويُجمّد التوكل، ويستهلك طاقة النفس في الدوران حول فرضيات لا قرار لها.
ولذا كانت ليلة الشك أطول من ليالي اليقين، لأن الزمن في ظلّ الاحتمال لا يُقاس بالدقائق، بل يُقاس بمقدار القلق الذي يسكن القلب. فالاحتمال يُنهك لأن فيه تعليقًا للعبودية، فهو لا يُقيم الصبر على مقام الحقيقة، ولا يُثمر الطمأنينة التي تُولد من الحسم، بل يترك القلب مشرّدًا بين المجهول والمعلوم، وذلك هو أشدّ أنواع الغربة: أن لا تجد في قلبك قرارًا تمضي فيه، ولا يقينًا تركن إليه.
وقد علمنا القرآن أن الطمأنينة لا تُولد من وضوح النتيجة، بل من الثقة بمن بيده النتيجة. فإبراهيم عليه السلام لم يتردّد بين احتمال السلام والنار، بل نطق باسمٍ واحد في لحظة المصير:"حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ. كما صحيح البخاري، وموسى عليه السلام لم يتوقف عند احتمالات الغرق، بل قال بثبات لا يعرف الظن: “كلا إن معي ربي سيهدين”.
هذه هي القاعدة الإيمانية التي تُبطل سحر الاحتمال وتكسر شوكته: أن العبد لا ينجو بكثرة السيناريوهات، بل بواحدٍ منها: التوكل. ولا يطمئن بجمع الاحتمالات، بل بإسقاطها جميعًا بين يدي من لا يُخيّب من توكّل عليه، نحن لا نتعب من الأحداث، بل من تردّد القلب أمامها، ولا نحزن من المجهول، بل من غياب اليقين وقت مجيئه.
ولذلك فإن أوّل ما يجب على المؤمن في لحظة الاحتمال، ليس أن يطلب الجواب، بل أن يثبّت القلب على الثقة بالله قبل أن تتضح النتائج. فإن حصل ذلك، سقطت كل سيناريوهات الوجع، وصار الزمن ـ مهما طال ـ مطوّقًا بالسكينة، وصارت النتيجة ـ مهما اشتدّت ـ محمولةً على جناح الصبر الجميل.
فمن أراد النجاة من جحيم الاحتمال، فليبدّل سؤاله: من “ماذا سيحدث؟” إلى “من الذي بيده أن يُقدّر ما يشاء ويختار ما هو خير لي؟” وحينها فقط، يتفتّح في قلبه باب، كُتب عليه: “ومن يتوكل على الله فهو حسبه”.
••
| التوكل دواء الاحتمال |
في خارطة الابتلاءات، ليس أشدّ على النفس من أن تُزاحمها الأسئلة المفتوحة دون جواب، وتُحيط بها الاحتمالات من كل جانب، دون أن تُبصر للحقيقة وجهاً واحداً تسكن إليه، فالحقيقة، وإن كانت موجعة، تُسدل على النفس ستار الحسم، وتُقيم فيها مقام التصرف: إما بالتسليم، أو بالدعاء، أو بإتخاذ خطوات جادة لبر الأمان. أما الاحتمال؛ فذاك العالَم الرمادي الذي يُعطّل القرار، ويُجمّد التوكل، ويستهلك طاقة النفس في الدوران حول فرضيات لا قرار لها.
ولذا كانت ليلة الشك أطول من ليالي اليقين، لأن الزمن في ظلّ الاحتمال لا يُقاس بالدقائق، بل يُقاس بمقدار القلق الذي يسكن القلب. فالاحتمال يُنهك لأن فيه تعليقًا للعبودية، فهو لا يُقيم الصبر على مقام الحقيقة، ولا يُثمر الطمأنينة التي تُولد من الحسم، بل يترك القلب مشرّدًا بين المجهول والمعلوم، وذلك هو أشدّ أنواع الغربة: أن لا تجد في قلبك قرارًا تمضي فيه، ولا يقينًا تركن إليه.
وقد علمنا القرآن أن الطمأنينة لا تُولد من وضوح النتيجة، بل من الثقة بمن بيده النتيجة. فإبراهيم عليه السلام لم يتردّد بين احتمال السلام والنار، بل نطق باسمٍ واحد في لحظة المصير:"حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ. كما صحيح البخاري، وموسى عليه السلام لم يتوقف عند احتمالات الغرق، بل قال بثبات لا يعرف الظن: “كلا إن معي ربي سيهدين”.
هذه هي القاعدة الإيمانية التي تُبطل سحر الاحتمال وتكسر شوكته: أن العبد لا ينجو بكثرة السيناريوهات، بل بواحدٍ منها: التوكل. ولا يطمئن بجمع الاحتمالات، بل بإسقاطها جميعًا بين يدي من لا يُخيّب من توكّل عليه، نحن لا نتعب من الأحداث، بل من تردّد القلب أمامها، ولا نحزن من المجهول، بل من غياب اليقين وقت مجيئه.
ولذلك فإن أوّل ما يجب على المؤمن في لحظة الاحتمال، ليس أن يطلب الجواب، بل أن يثبّت القلب على الثقة بالله قبل أن تتضح النتائج. فإن حصل ذلك، سقطت كل سيناريوهات الوجع، وصار الزمن ـ مهما طال ـ مطوّقًا بالسكينة، وصارت النتيجة ـ مهما اشتدّت ـ محمولةً على جناح الصبر الجميل.
فمن أراد النجاة من جحيم الاحتمال، فليبدّل سؤاله: من “ماذا سيحدث؟” إلى “من الذي بيده أن يُقدّر ما يشاء ويختار ما هو خير لي؟” وحينها فقط، يتفتّح في قلبه باب، كُتب عليه: “ومن يتوكل على الله فهو حسبه”.
••
••
من يتأمل في خطاب الوحي، سيجد أنه لا يربّي المسلم على “الاطمئنان اللحظي”، بل على “التسليم الكلي”، ولذلك قال الله في سورة يونس في وصف أهل الإيمان بـ (الذين آمنوا وكانوا يتقون)، ثم جاءت بعدها: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، أي أن اليقين بالله، والرضا بتدبيره، لا ينتج فقط طمأنينة مستقبلية، بل يمنح الإنسان معنىً جديدًا للعيش في قلب اللحظة، حتى لو كانت اللحظة نفسها تُنذر بالفقد، أو بالتحوّل الجذري.
فالوعي الإيماني لا يُلغي المعاناة، لكنه يُعيد تأطيرها، لا يُطفئ الآهات، لكنه يضعها تحت سقف (وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم). ولا يمنع الأسئلة، لكنه يعصم النفس من السقوط في مستنقع الجزع.
••
من يتأمل في خطاب الوحي، سيجد أنه لا يربّي المسلم على “الاطمئنان اللحظي”، بل على “التسليم الكلي”، ولذلك قال الله في سورة يونس في وصف أهل الإيمان بـ (الذين آمنوا وكانوا يتقون)، ثم جاءت بعدها: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، أي أن اليقين بالله، والرضا بتدبيره، لا ينتج فقط طمأنينة مستقبلية، بل يمنح الإنسان معنىً جديدًا للعيش في قلب اللحظة، حتى لو كانت اللحظة نفسها تُنذر بالفقد، أو بالتحوّل الجذري.
فالوعي الإيماني لا يُلغي المعاناة، لكنه يُعيد تأطيرها، لا يُطفئ الآهات، لكنه يضعها تحت سقف (وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم). ولا يمنع الأسئلة، لكنه يعصم النفس من السقوط في مستنقع الجزع.
••
Forwarded from أثارَة
رِفاق أثارة الكِرام
نستهل هذه المبادرة بالقراءة في علمين من أشرف العلوم وأعظمها، التفسير والسيرة، نستقي منهما ما يُنير لنا الدرب، ويُضيء لنا ظلمة الحياة ووحشتها..
هذا جدول سيرنا بين أيديكم، فتح الله عليكم وتقبل منكم🍃🤍
نستهل هذه المبادرة بالقراءة في علمين من أشرف العلوم وأعظمها، التفسير والسيرة، نستقي منهما ما يُنير لنا الدرب، ويُضيء لنا ظلمة الحياة ووحشتها..
هذا جدول سيرنا بين أيديكم، فتح الله عليكم وتقبل منكم🍃🤍
••
المعصية تُحدِث صدعًا خفيًّا في جدار التوفيق، وتُربك انسياب النفس في مدارج الإقبال، فتفتر الهمّة، ويبهت الصفاء، وتتشوش زاوية النظر، والذنب يُشوّش جهاز التلقّي، ويعطّل سلك الاستمداد من موارد الهداية، فيبرد الإحساس عند مقامات البذل، ويخفت وهج السير في مضمار التعبّد. وصدق ابن القيم حينما قال في الجواب الكافي: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُفْسِدُ الْعَقْلَ، فَإِنَّ لِلْعَقْلِ نُورًا، وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ نُورَ الْعَقْلِ وَلَا بُدَّ، وَإِذَا طُفِئَ نُورُهُ ضَعُفَ وَنَقَصَ.
والتوبة الصادقة تُطلق عملية تصحيح داخلية، يُعاد فيها ترتيب الأولويات، وتُجتثّ مواضع التلوّث، فالقلب يشتدّ نوره كلما غُمِس في ماء الاستغفار، وتُشحذ بصيرته كلما سجد في هدأة الليل، ومنازل الإقبال تُفتح لمن أقبل بكليّته، لا لمن بعثرته الغفلة، ولازمه العُذر المؤجل.
••
المعصية تُحدِث صدعًا خفيًّا في جدار التوفيق، وتُربك انسياب النفس في مدارج الإقبال، فتفتر الهمّة، ويبهت الصفاء، وتتشوش زاوية النظر، والذنب يُشوّش جهاز التلقّي، ويعطّل سلك الاستمداد من موارد الهداية، فيبرد الإحساس عند مقامات البذل، ويخفت وهج السير في مضمار التعبّد. وصدق ابن القيم حينما قال في الجواب الكافي: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُفْسِدُ الْعَقْلَ، فَإِنَّ لِلْعَقْلِ نُورًا، وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ نُورَ الْعَقْلِ وَلَا بُدَّ، وَإِذَا طُفِئَ نُورُهُ ضَعُفَ وَنَقَصَ.
والتوبة الصادقة تُطلق عملية تصحيح داخلية، يُعاد فيها ترتيب الأولويات، وتُجتثّ مواضع التلوّث، فالقلب يشتدّ نوره كلما غُمِس في ماء الاستغفار، وتُشحذ بصيرته كلما سجد في هدأة الليل، ومنازل الإقبال تُفتح لمن أقبل بكليّته، لا لمن بعثرته الغفلة، ولازمه العُذر المؤجل.
••
••
مدونة شيخي الغالي أ. فؤاد العمري.
لطالما فضَّ اشتباك المعاني، وردَّ السائل إلى نبعٍ من اليقين وصفاء التمييز.
https://gohodhod.com/@amrey13966035
••
مدونة شيخي الغالي أ. فؤاد العمري.
لطالما فضَّ اشتباك المعاني، وردَّ السائل إلى نبعٍ من اليقين وصفاء التمييز.
https://gohodhod.com/@amrey13966035
••
••
من أَلِف الاستدراك على الناس، تشكَّلت في ذهنه حرفة الحفر في أطراف الكلام، لا استخراج لُبابه، بل التماس لمواضع التعقيب، ينظر إلى الخطاب بعين الناقد، ويتقدّم إليه بسؤال المتربّص، فتغدو المجالس في حضرته مسرحًا لامتحان الآخرين، لا ميدانًا لتزكية الذات، يمضي عمره في صقل أدواته الجدلية، فيزداد حضورًا بين الناس، ويقلّ أثره فيهم، لأن الجمال لا يُقيم في عقلٍ يقيس المعاني بمسطرة التصحيح، بل في نفسٍ تتلقّى بعين المودّة، وتهضم بعقل التؤدة.
••
من أَلِف الاستدراك على الناس، تشكَّلت في ذهنه حرفة الحفر في أطراف الكلام، لا استخراج لُبابه، بل التماس لمواضع التعقيب، ينظر إلى الخطاب بعين الناقد، ويتقدّم إليه بسؤال المتربّص، فتغدو المجالس في حضرته مسرحًا لامتحان الآخرين، لا ميدانًا لتزكية الذات، يمضي عمره في صقل أدواته الجدلية، فيزداد حضورًا بين الناس، ويقلّ أثره فيهم، لأن الجمال لا يُقيم في عقلٍ يقيس المعاني بمسطرة التصحيح، بل في نفسٍ تتلقّى بعين المودّة، وتهضم بعقل التؤدة.
••
••
الذي يظهر لي أن الزواج في التصوّر الإيماني ليس مجرّد اقتران بين جسدين، ولا إطارًا اجتماعيًا تنظمه الأعراف وتُباركه التقاليد، بل هو ميثاقٌ علويّ، تُستدعى فيه السماء لتشهد، وتُستنهض فيه الأرض لتحتضن نشأة الإنسان في طوره الأجمل: طورِ السكن والمودّة والرحمة.
إنه انتقالٌ من فردانية الهوى إلى جماعية المسؤولية، ومن عفوية الميل إلى نظام التكليف، حيث تُروّض النفس على مقامات الأخلاق، ويُهذّب القلب على سنن المداراة، ويُجبر الضعف البشري بجلال العهد الرباني. في الزواج، لا تُختبر العاطفة بقدر ما تُختبر النية؛ لا يُقاس الحب بارتفاع صوته، بل بعمق ستره، ولا تُوزن العلاقة بلحظات الانسجام، بل بمواقف الثبات حين تمتحنها الأيام.
في الزواج يتعلّم القلب معنى الطهارة العملية: أن تغضب وتكفّ، أن تقدر وتعفو، أن ترى النقص وتُغضّي عنه بعينٍ تستحضر ستر الله عليك.
وهكذا، لا يكون الزواج نهاية العزوبية، بل بداية التربية الثانية، حيث تُعاد صياغة النفس في بوتقة الحياة المشتركة، ويُعاد تعريف النجاح لا بكثرة اللحظات الجميلة، بل بقلّة لحظات الكسر، وصدق النية في الترميم كلما تصدّع شيء من الداخل.
فالزواج ليس خاتمة مرحلة، بل افتتاح عهدٍ جديد من التزكية العملية، يُكتب في سطور لم تُسطر بالحبر، بل خُطّت بالدعاء، وغذّاها الصبر، وشهد عليها الليل حين تهامست فيه الأرواح: “ربّنا هب لنا من أزواجنا وذريّاتنا قرّة أعين، واجعلنا للمتقين إمامًا”.
••
الذي يظهر لي أن الزواج في التصوّر الإيماني ليس مجرّد اقتران بين جسدين، ولا إطارًا اجتماعيًا تنظمه الأعراف وتُباركه التقاليد، بل هو ميثاقٌ علويّ، تُستدعى فيه السماء لتشهد، وتُستنهض فيه الأرض لتحتضن نشأة الإنسان في طوره الأجمل: طورِ السكن والمودّة والرحمة.
إنه انتقالٌ من فردانية الهوى إلى جماعية المسؤولية، ومن عفوية الميل إلى نظام التكليف، حيث تُروّض النفس على مقامات الأخلاق، ويُهذّب القلب على سنن المداراة، ويُجبر الضعف البشري بجلال العهد الرباني. في الزواج، لا تُختبر العاطفة بقدر ما تُختبر النية؛ لا يُقاس الحب بارتفاع صوته، بل بعمق ستره، ولا تُوزن العلاقة بلحظات الانسجام، بل بمواقف الثبات حين تمتحنها الأيام.
في الزواج يتعلّم القلب معنى الطهارة العملية: أن تغضب وتكفّ، أن تقدر وتعفو، أن ترى النقص وتُغضّي عنه بعينٍ تستحضر ستر الله عليك.
وهكذا، لا يكون الزواج نهاية العزوبية، بل بداية التربية الثانية، حيث تُعاد صياغة النفس في بوتقة الحياة المشتركة، ويُعاد تعريف النجاح لا بكثرة اللحظات الجميلة، بل بقلّة لحظات الكسر، وصدق النية في الترميم كلما تصدّع شيء من الداخل.
فالزواج ليس خاتمة مرحلة، بل افتتاح عهدٍ جديد من التزكية العملية، يُكتب في سطور لم تُسطر بالحبر، بل خُطّت بالدعاء، وغذّاها الصبر، وشهد عليها الليل حين تهامست فيه الأرواح: “ربّنا هب لنا من أزواجنا وذريّاتنا قرّة أعين، واجعلنا للمتقين إمامًا”.
••
••
القرارات الكبرى لا تنبع دومًا من القناعة المتأملة، بل كثيرًا ما تصدر عن خزّان اللاشعور الجمعي، حيث تتحكم “البيئة النفسية الموروثة” في سلوك الإنسان بأشدّ مما يفعل يقينه المعرفي، ولهذا جاءت الآية العميقة في توصيف هذا الأثر: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾، فالمشكلة ليست في نقص العلم، بل في تغلغل “المألوف العائلي” حتى بات معيارًا خفيًا يُسيّر الاختيار، لا يُراجع، ويُطمأن إليه، لا يُساءل، ومن هنا، كانت الهجرة النفسية من الموروث إلى الوحي، هي أعظم صور التحرر والتجرد.
••
القرارات الكبرى لا تنبع دومًا من القناعة المتأملة، بل كثيرًا ما تصدر عن خزّان اللاشعور الجمعي، حيث تتحكم “البيئة النفسية الموروثة” في سلوك الإنسان بأشدّ مما يفعل يقينه المعرفي، ولهذا جاءت الآية العميقة في توصيف هذا الأثر: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾، فالمشكلة ليست في نقص العلم، بل في تغلغل “المألوف العائلي” حتى بات معيارًا خفيًا يُسيّر الاختيار، لا يُراجع، ويُطمأن إليه، لا يُساءل، ومن هنا، كانت الهجرة النفسية من الموروث إلى الوحي، هي أعظم صور التحرر والتجرد.
••
Forwarded from منصت الوحي-سماع السنة
أصدقاء منصت الوحي ✨
يسعدنا أن نستهل العام الهجري ببرنامج سماع السنة، لنشنف الآذان ونروي القلوب بحديث رسول الله ﷺ .
و كتابنا الأول :
📖 جامع الصحيحين
جمع: وليد الحمدان
📅 ا
-البداية: الخميس ٨ محرم - ٣ يوليو
-النهاية: السبت ٥ ربيع الثاني - ٢٧ سبتمبر
____
📎كن شريكا بدعوة الأصدقاء لسماع السنة :
https://hottg.com/monsitsunna
🔄🔄
يسعدنا أن نستهل العام الهجري ببرنامج سماع السنة، لنشنف الآذان ونروي القلوب بحديث رسول الله ﷺ .
و كتابنا الأول :
📖 جامع الصحيحين
جمع: وليد الحمدان
📅 ا
-البداية: الخميس ٨ محرم - ٣ يوليو
-النهاية: السبت ٥ ربيع الثاني - ٢٧ سبتمبر
____
📎كن شريكا بدعوة الأصدقاء لسماع السنة :
https://hottg.com/monsitsunna
🔄🔄
••
التدرّج: فقه العروج البشري
ما من طمأنينة أعظم من أن تدرك أن الدين لا ينتظر منك أن تبلغ الكمال، بل أن تتوجه إليه، لا يُكلفك أن تطير، بل أن تسير، لا يزنك بالخوارق، بل بالصدق، ومن ذا الذي بلغ الله بالقفزات؟ إنما نبلغه بالتدرج.
وفي خضمّ سعي العقل المسلم لفهم معالم هذا الدين، كثيرًا ما يقع في شَرَك التوقعات المثالية، التي يُخيّل إليه أنها من لوازم الدين، وهي ليست منه في شيء، وأول ما ينبغي أن يُعقل عند النظر في طبيعة الشريعة الربانية، أنها شريعة نزلت على بشر، وأُنيط تطبيقها بالبشر، في حدود طاقتهم، وبحسب طبيعتهم التي خلقهم الله عليها، لا في فضاء الكمالات الغيبية ولا في أفق الخوارق التي لا تتسق مع نواميس الكون ولا مع طبائع النفوس.
وهنا تكمن نقطة الانطلاق؛ إذ إن هذا الدين – من حيث الأصل – لا يتعامل مع الإنسان بوصفه ملاكًا مطهّرًا، ولا يُكلّفه بما لا يُطاق، بل يخاطبه من حيث هو بشرٌ محدود الجهد، متقلّب الحال، مثقل بأثقال الأرض وقيود الواقع، ومن هنا تتجلى عبقرية هذا المنهج، لا في كونه يصنع المعجزات في الأرض، بل في كونه ينهض بالإنسان الواقعي، المتعثّر، نحو معارج الكمال الممكن، على مهل، وبقدر، ووفق سنة التدرّج التي طبع الله بها حركة التاريخ وسيرة الأنبياء.
غير أن بعض العقول المعاصرة، بحكم التلقي الثقافي المُشوّش، تتصوّر أن التديّن الصحيح لا يكون إلا حين يُقدّم الإنسان تضحيات خارقة، أو يسلك مسارات روحية مفصولة عن شروط الواقع، أو يتعالى على سنن الفطرة وحدود الطبيعة البشرية، فينشأ هذا التصور المثالي المختل، فيقع أحد أمرين: إما أن يُصاب صاحبه بإحباط إذا لم يستطع تحقيق تلك الصورة المتخيلة، أو أن يُصاب بغرور خفي إذا أحسن الظن بوصوله إليها.
وتتتابع هذه الأخطاء الفكرية لتنتج فجوة ضخمة بين صورة الدين كما أنزله الله، وصورته كما رسمها الخيال المفرَط أو الزهد المنفصل عن سنن الله في خلقه.
وهذا الدين لم يأتِ ليُسقط الإنسان من سماء المثال إلى واقع الابتلاء دون مدد، بل جاء ليمنحه منهج حياة يسير به في حدود فطرته، ويعمل ضمن طاقته، ويبلّغ به الغاية العليا في مراتب السكينة والرضا، منهج يسير بالتدرج، ويُراعي الأطوار، ولا يحمل الإنسان ما لا طاقة له به.
وما زال الخلل في التعامل مع الشريعة – منذ القدم – راجعًا إلى إغفال هذه الحقيقة المركزية: أن الشريعة تعمل في إطار الزمن، وتؤتي أُكلها في ميدان الجهد البشري، ولا تناقض فطرة الإنسان ولا تحمّله ما لا يطيق، وإنما تأخذ بيده نحو الكمال، درجةً درجة، بطريقٍ يمشي عليه، لا طيران في سماء الأماني.
ولذلك فإن اختلال التصوّر عن هذا الدين نشأ – في أصله – من نسيان هذه الحقيقة التأسيسية البسيطة: أن الدين منهج للإنسان لا للملائكة، وأنه نازل من عند الله ليُعان به البشر على سلوك السبيل، لا ليُرهَقوا به خارج الطاقة.
إن هذا الدين – كما قال الله – {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، و{ما جعل عليكم في الدين من حرج}. لكنه يَطلب منك شيئًا أعظم من الخوارق، يطلب منك الصدق في السير، والثبات في التدرج، والنظر الدائم إلى المقصد الأعلى، رغم تعثر الخطى، وتقصير النفس.
ويا ويله من ظنّ أن طمأنينة هذا الدين وراحته لا تأتي إلا مع بلوغ المثالية، فإن راحة هذا الدين تكمن في اليقين به، لا في النجاة من كل نقص.
••
التدرّج: فقه العروج البشري
ما من طمأنينة أعظم من أن تدرك أن الدين لا ينتظر منك أن تبلغ الكمال، بل أن تتوجه إليه، لا يُكلفك أن تطير، بل أن تسير، لا يزنك بالخوارق، بل بالصدق، ومن ذا الذي بلغ الله بالقفزات؟ إنما نبلغه بالتدرج.
وفي خضمّ سعي العقل المسلم لفهم معالم هذا الدين، كثيرًا ما يقع في شَرَك التوقعات المثالية، التي يُخيّل إليه أنها من لوازم الدين، وهي ليست منه في شيء، وأول ما ينبغي أن يُعقل عند النظر في طبيعة الشريعة الربانية، أنها شريعة نزلت على بشر، وأُنيط تطبيقها بالبشر، في حدود طاقتهم، وبحسب طبيعتهم التي خلقهم الله عليها، لا في فضاء الكمالات الغيبية ولا في أفق الخوارق التي لا تتسق مع نواميس الكون ولا مع طبائع النفوس.
وهنا تكمن نقطة الانطلاق؛ إذ إن هذا الدين – من حيث الأصل – لا يتعامل مع الإنسان بوصفه ملاكًا مطهّرًا، ولا يُكلّفه بما لا يُطاق، بل يخاطبه من حيث هو بشرٌ محدود الجهد، متقلّب الحال، مثقل بأثقال الأرض وقيود الواقع، ومن هنا تتجلى عبقرية هذا المنهج، لا في كونه يصنع المعجزات في الأرض، بل في كونه ينهض بالإنسان الواقعي، المتعثّر، نحو معارج الكمال الممكن، على مهل، وبقدر، ووفق سنة التدرّج التي طبع الله بها حركة التاريخ وسيرة الأنبياء.
غير أن بعض العقول المعاصرة، بحكم التلقي الثقافي المُشوّش، تتصوّر أن التديّن الصحيح لا يكون إلا حين يُقدّم الإنسان تضحيات خارقة، أو يسلك مسارات روحية مفصولة عن شروط الواقع، أو يتعالى على سنن الفطرة وحدود الطبيعة البشرية، فينشأ هذا التصور المثالي المختل، فيقع أحد أمرين: إما أن يُصاب صاحبه بإحباط إذا لم يستطع تحقيق تلك الصورة المتخيلة، أو أن يُصاب بغرور خفي إذا أحسن الظن بوصوله إليها.
وتتتابع هذه الأخطاء الفكرية لتنتج فجوة ضخمة بين صورة الدين كما أنزله الله، وصورته كما رسمها الخيال المفرَط أو الزهد المنفصل عن سنن الله في خلقه.
وهذا الدين لم يأتِ ليُسقط الإنسان من سماء المثال إلى واقع الابتلاء دون مدد، بل جاء ليمنحه منهج حياة يسير به في حدود فطرته، ويعمل ضمن طاقته، ويبلّغ به الغاية العليا في مراتب السكينة والرضا، منهج يسير بالتدرج، ويُراعي الأطوار، ولا يحمل الإنسان ما لا طاقة له به.
وما زال الخلل في التعامل مع الشريعة – منذ القدم – راجعًا إلى إغفال هذه الحقيقة المركزية: أن الشريعة تعمل في إطار الزمن، وتؤتي أُكلها في ميدان الجهد البشري، ولا تناقض فطرة الإنسان ولا تحمّله ما لا يطيق، وإنما تأخذ بيده نحو الكمال، درجةً درجة، بطريقٍ يمشي عليه، لا طيران في سماء الأماني.
ولذلك فإن اختلال التصوّر عن هذا الدين نشأ – في أصله – من نسيان هذه الحقيقة التأسيسية البسيطة: أن الدين منهج للإنسان لا للملائكة، وأنه نازل من عند الله ليُعان به البشر على سلوك السبيل، لا ليُرهَقوا به خارج الطاقة.
إن هذا الدين – كما قال الله – {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، و{ما جعل عليكم في الدين من حرج}. لكنه يَطلب منك شيئًا أعظم من الخوارق، يطلب منك الصدق في السير، والثبات في التدرج، والنظر الدائم إلى المقصد الأعلى، رغم تعثر الخطى، وتقصير النفس.
ويا ويله من ظنّ أن طمأنينة هذا الدين وراحته لا تأتي إلا مع بلوغ المثالية، فإن راحة هذا الدين تكمن في اليقين به، لا في النجاة من كل نقص.
••
••
أكثر ما يُنهك الروح، سُلّمٌ علّقناه في الهواء، ظنٌّ سامق، وتوقّعٌ ثقيل، وخيالٌ ناعمٌ لا يُشبه الأرض، وما يؤلمنا ليس ما وقع، بل ما توهّمناه قبل أن يقع، لسنا ضحايا الأحداث، بل ضحايا الظنّ الزائد، والتصوّر المتوهّج، والتوقعات التي حملناها فوق طاقتنا، وما انكسر فينا لم يكن من ضربة، بل من هالةٍ رسمناها فوق الاحتمال، وخذ هذه القاعدة: كلما قلَّ الظن، اتّسع الصدر، وكلما خفَّ التوقّع، خفَّ الحمل.
••
أكثر ما يُنهك الروح، سُلّمٌ علّقناه في الهواء، ظنٌّ سامق، وتوقّعٌ ثقيل، وخيالٌ ناعمٌ لا يُشبه الأرض، وما يؤلمنا ليس ما وقع، بل ما توهّمناه قبل أن يقع، لسنا ضحايا الأحداث، بل ضحايا الظنّ الزائد، والتصوّر المتوهّج، والتوقعات التي حملناها فوق طاقتنا، وما انكسر فينا لم يكن من ضربة، بل من هالةٍ رسمناها فوق الاحتمال، وخذ هذه القاعدة: كلما قلَّ الظن، اتّسع الصدر، وكلما خفَّ التوقّع، خفَّ الحمل.
••
••
•| التغابن المعرفي |•
﴿فَلَمّا جاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَرِحوا بِما عِندَهُم مِنَ العِلمِ وَحاقَ بِهِم ما كانوا بِهِ يَستَهزِئونَ﴾ [غافر: ٨٣]
﴿ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَت تَأتيهِم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَقالوا أَبَشَرٌ يَهدونَنا فَكَفَروا وَتَوَلَّوا وَاستَغنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَميدٌ﴾ [التغابن: ٦]
ليست الفاجعة أنهم جُهّال، بل أنهم فرحوا بما عندهم من العلم، فاستكفوا به عن البينات، وظنّوا أن ما بأيديهم من مناهج التحليل، وأطر الفلسفة، ونماذج الاقتصاد السلوكي، ونظريات علم النفس الاجتماعي، يُغنيهم عن هُدى الوحي، ويُعفيهم من مقام السجود للنص للشرعي، لم يكن الصدّ عن سبيل الله نتاج شبهة مُغلِقة، بل نتاج غواية عقليةٍ ترى في أدواتها الكفاية، وتستنكف أن تُذعن لقولٍ لا ينبعث من حقلها المعرفي.
وهنا تتجلّى إحدى أعظم صور “التغابن” التي سُمّيت بها السورة: تغابنٌ بين من باع اليقين بالظن، وبين من اشترى آراء البشر بعهد الله، بين من اعتصم بالبيانات، ومن استغنى بها عن البينات، ولم يسخروا من الحق جهلًا، بل سخروا منه ثقةً بالذات المعرفية، وغرورًا بالمنهجية الأكاديمية، وتعاليًا على التلسيم النص الشرعي، فاستُدرجوا إلى مصيرهم من حيث فرحوا، ونزل بهم العذاب من حيث استعلوا، ﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
وهكذا يُفهم أن أعظم الحجب عن الله ليست الجهالة، بل الغرور بالعلم المنزوع عن خضوع العبودية، فكل علمٍ لا ينتهي بك إلى سجدة، قد ينتهي بك إلى تهكّم، ثم هلاك.
••
•| التغابن المعرفي |•
﴿فَلَمّا جاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَرِحوا بِما عِندَهُم مِنَ العِلمِ وَحاقَ بِهِم ما كانوا بِهِ يَستَهزِئونَ﴾ [غافر: ٨٣]
﴿ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَت تَأتيهِم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَقالوا أَبَشَرٌ يَهدونَنا فَكَفَروا وَتَوَلَّوا وَاستَغنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَميدٌ﴾ [التغابن: ٦]
ليست الفاجعة أنهم جُهّال، بل أنهم فرحوا بما عندهم من العلم، فاستكفوا به عن البينات، وظنّوا أن ما بأيديهم من مناهج التحليل، وأطر الفلسفة، ونماذج الاقتصاد السلوكي، ونظريات علم النفس الاجتماعي، يُغنيهم عن هُدى الوحي، ويُعفيهم من مقام السجود للنص للشرعي، لم يكن الصدّ عن سبيل الله نتاج شبهة مُغلِقة، بل نتاج غواية عقليةٍ ترى في أدواتها الكفاية، وتستنكف أن تُذعن لقولٍ لا ينبعث من حقلها المعرفي.
وهنا تتجلّى إحدى أعظم صور “التغابن” التي سُمّيت بها السورة: تغابنٌ بين من باع اليقين بالظن، وبين من اشترى آراء البشر بعهد الله، بين من اعتصم بالبيانات، ومن استغنى بها عن البينات، ولم يسخروا من الحق جهلًا، بل سخروا منه ثقةً بالذات المعرفية، وغرورًا بالمنهجية الأكاديمية، وتعاليًا على التلسيم النص الشرعي، فاستُدرجوا إلى مصيرهم من حيث فرحوا، ونزل بهم العذاب من حيث استعلوا، ﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
وهكذا يُفهم أن أعظم الحجب عن الله ليست الجهالة، بل الغرور بالعلم المنزوع عن خضوع العبودية، فكل علمٍ لا ينتهي بك إلى سجدة، قد ينتهي بك إلى تهكّم، ثم هلاك.
••
HTML Embed Code: