TG Telegram Group Link
Channel: ✍مقالات ورسائل الشيخ عبد الحميد بن باديس ✍
Back to Bottom
🚪قسم المقالات:
مقالات و رسائل الشيخ عبد الحميد بن باديس
📜في نصيحة نافعة و وصية جامعة
💻الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
🔗
https://ferkous.com/home/?q=ibnbadis-3-5
⬇️⬇️
📌في نصيحة نافعة ووصية جامعة (١)

◀️الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

◀️فقَدْ قال الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ:

«اعْلَمُوا ـ جَعَلَكُمُ اللهُ مِنْ وُعَاةِ الْعِلْمِ، وَرَزَقَكُمْ حَلَاوَةَ الْإِدْرَاكِ وَالْفَهْمِ، وَجَمَّلَكُمْ بِعِزَّةِ الاِتِّبَاعِ، وَجَنَّبَكُمْ ذِلَّةَ الاِبْتِدَاعِ ـ: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ: أَنْ يَعْتَقِدَ عَقْدًا يَتَشَرَّبُهُ قَلْبُهُ، وَتَسْكُنُ لَهُ نَفْسُهُ، وَيَنْشَرِحُ لَهُ صَدْرُهُ، وَيَلْهَجُ بِهِ لِسَانُهُ، وَتَنْبَنِي عَلَيْهِ أَعْمَالُهُ: أَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى ـ مِنْ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ، وَقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَطَرَائِقِ الْإِحْسَانِ ـ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الصَّحِيحَةِ، وَعَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ(٢)، وَأَنَّ كُلَّ مَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْأُصُولِ(٣)، وَلَمْ يَحْظَ لَدَيْهَا بِالْقَبُولِ ـ قَوْلًا كَانَ أَوْ عَمَلًا، أَوْ عَقْدًا أَوِ احْتِمَالًا ـ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ، مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ(٤) ـ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ـ فَاحْفَظُوهَا وَاعْمَلُوا بِهَا؛ تَهْتَدُوا وَتَرْشُدُوا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى؛ فَقَدْ تَضَافَرَتْ عَلَيْهَا الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقْوَالُ أَسَاطِينِ المِلَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، وَأَئِمَّةِ الْأَقْطَارِ، وَشُيُوخِ الزُّهْدِ الْأَخْيَارِ؛ وَهِيَ ـ لَعَمْرُ الْحَقِّ(٥) ـ لَا يَقْبَلُهَا إِلَّا أَهْلُ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ، وَلَا يَرُدُّهَا إِلَّا أَهْلُ الزَّيْغِ وَالْبُهْتَانِ(٦)؛ وَاللهَ أَسْأَلُ التَّوْفِيقَ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، وَالْخَاتِمَةَ الْحَسَنَةَ وَالمَنْزِلَةَ الْكَرِيمَةَ فِي يَوْمِ الدِّينِ(٧)، آمِينَ؛ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

◀️قَالَ مُؤَلِّفُهُ عَبْدُ الحَمِيدِ بْنُ بَادِيسَ ـ عَفَا اللهُ عَنْهُ ـ: فَرَغْتُ مِنْ تَحْرِيرِهِ بَيْنَ عَشِيَّةِ يَوْمِ الإِثْنَيْنِ وَصَبِيحَةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ، السَّادِسِ وَالعِشْرِينَ وَالسَّابِعِ وَالعِشْرِينَ مِنْ ذِي الحِجَّةِ الحَرَامِ عَامَ ١٣٤٠».

[رسالة:
📒«جواب سؤال عن سوء مقال» ص ١ ـ ٢٠
🖨المطبعة الجزائريَّة الإسلاميَّة بقسنطينة].
🔹(١) «آثار الإمام عبد الحميد بنِ باديس» (٣/ ١٦٣).

🔹(٢) والمقصود بالسَّلَف ـ شرعًا ـ هم: الصحابة والتابعون وأتباعُ التابعين بإحسانٍ، ممَّنْ أجمعَتِ الأمَّةُ على عدالتهم وتزكِيَتِهم، ولم يُرْمَوْا ببدعةٍ مُكفِّرةٍ أو مُفسِّقةٍ، مِنْ أهلِ القرون الثلاثة المفضَّلة الذين قال اللهُ فيهم: ﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ﴾ [التوبة: ١٠٠]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» [أخرجه البخاريُّ في «الشهادات» (٥/ ٢٥٨) باب: لا يشهد على شهادةِ جَوْرٍ إذا أُشْهِدَ، ومسلمٌ في «فضائل الصحابة» (١٦/ ٨٦) بابُ فضلِ الصحابة رضي الله عنهم ثمَّ الذين يَلُونهم ثمَّ الذين يَلُونهم، مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه]؛ أمَّا أتباعُ السلف بإحسانٍ فهُمْ أهلُ السُّنَّة والجماعة إلى يوم الدِّين، فإنهم لا يَدْعون إلَّا إلى اتِّباع الكتاب والسُّنَّة وما اتَّفقَتْ عليه الأمَّةُ، ويُوَالُون به ويُعادُون عليه، [انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٢/ ٢٤٨ ـ ٢٤٩)، «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٤/ ٢٦٢)]؛ لذلك كان الانتسابُ إلى أهل السُّنَّة والجماعةِ أو إلى السلفيَّة عزًّا وشرفًا، خاصَّةً إذا تَجسَّد بالعمل الصحيح المؤيَّد بالكتاب والسُّنَّة، وإنما العيبُ والذمُّ في مخالفةِ اعتقاد السلف الصالح في أصلٍ مِنَ الأصول؛ لأنَّ مذهب السلف لا يكون إلَّا حقًّا؛ قال تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾ [النساء].

◀️ومِنْ مُنطلَقِ هذا المعنى يُعْلَم أنَّ السلفيَّةَ ليسَتْ مرحلةً زمنيَّةً تنقضي بموتِ أفرادها ـ كما يدَّعِيه بعضُهم جهلًا ـ ولكِنْ منهجٌ مُتَّبَعٌ وقدوةٌ صالحةٌ، امتاز به أعلامُ السلف عن غيرهم مِنْ أهل الفِرَق والطوائف؛ فالقدوةُ هُم أصحابُ القرون المفضَّلة، والمنهجُ هو الطريقةُ المُتَّبَعةُ في هذه الأزمنة، القائمةُ على تقرير العقيدة السليمة والاستدلالِ عليها والدفاعِ عنها، وخاصَّةً في القضايا الكبرى المُرتبِطة بأصل الأصول، وما يتعلَّق بها مِنْ مسائلِ التوحيد والإيمان وغيرِها مِنَ التصوُّرات العَقَديَّة، أو ما يتعلَّق ـ أيضًا ـ بالقواعد الأساسيَّة في فهم الإسلام والعملِ به نصًّا وروحًا، وكذلك المبادئ والقِيَم الإسلاميَّة التي الْتَزموا بها في الدفاع عن الحقِّ الذي عَلِموه، ضِدَّ كُلِّ التحدِّيات والقضايا المُستجدَّة والمُثارة في عصورهم.

◀️فالمنهج السلفيُّ هو منهجُ الإسلامِ البيِّنةُ مَعالِمُه المأمونةُ عواقبُه، وهو صراطُ الله المستقيم، وحبلُه المَتين الذي أَمَرنا اللهُ تعالى باتِّباعه في مِثلِ قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣﴾ [الأنعام].

◀️وعليه، فإنَّ مُجرَّد الانتماء إلى الكتاب والسُّنَّة مِنْ غير عملٍ بهما، ولا اعتصامٍ مِنَ الخروج عنهما بالتمسُّك بما كان عليه السلفُ مِنَ القرون المشهودِ لهم بالخيريَّة؛ لَهُوَ مُجرَّدُ دعوَى باطلةٍ لا أساسَ لها مِنَ الصحَّة، وهي مُفرغةٌ مِنْ حقيقتها؛ لأنَّ «العِبْرَةَ بِالمَقَاصِدِ وَالمَعَانِي لَا بِالأَلْفَاظِ وَالأَسَامِي»، كما تَقرَّر في القواعد أنَّ: «ادِّعَاءَ المُسَمَّيَاتِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الصِّفَاتِ».

🖌(٣) مِنْ أهمِّ الأصول والمميِّزات الكبرى التي يختصُّ بها أهلُ السُّنَّة والجماعة (السلفيَّة):

🔘استدلالهم بالآيات القرآنيَّة والأحاديثِ النبويَّة، وقَبولُ أخبار الآحاد والعملُ بها، مع استخدامهم الأدلَّةَ العقليَّة مِنَ الأقيسة والتعليلات والمعقولات المُستنبَطة مِنَ النصوص الشرعيَّة، ما لم يُعارَضْ بها النصُّ أو الإجماعُ، واسترشادُهم بفهم علماء السلف مِنَ الصحابة والتابعين ومَنِ الْتزَم منهجَهم واقتفى أثَرَهم.

🔘اتِّخاذهم الكتابَ والسُّنَّةَ معيارًا للقَبول أو الرفض، وميزانًا لصحَّةِ الأقوال أو فسادِها، مع نفي التعارض بينهما.

🔘تقديمهم للشرع على العقل، مع أنَّ العقل السليم لا يُعارِضُ النصَّ الصحيح، بل هو مُوافِقٌ له.

🔘طلبُهم للعلم بالمَطالِب الإلهيَّة عن طريق الكتاب والسُّنَّة وكلامِ سَلَفِ الأمَّة، مع رفضهم للتأويل الكلاميِّ؛ بخلافِ مذهب الخلف الذين دنَّسوا عقائدَهم بأدرانِ عِلم الكلام والمنطق اليونانيِّ وضلالاتِ الفلاسفة وشُبُهاتِ المُتكلِّمين، ومَنْ سلكوا غيرَ سبيلِ سَلَفِهم الصالح مِنْ أهل الأهواء وأربابِ الابتداع، كالجهميَّة والمعتزلة والأشعريَّة والرافضة والخوارج والصوفيَّة الاتِّحاديَّة والحلوليَّة،
ونحوِهم ممَّنْ دلَّتِ النصوصُ الشرعيَّةُ وإجماعُ سلفِ الأمَّة على ذَمِّ مسالكِهم وطرائقهم العَقَديَّة، فإنَّ مذهب الخلف قائمٌ على تأويلِ نصوص الكتاب والسُّنَّة بمُختلَفِ أنواع المجازات ـ كما تقدَّم ـ بالتحريف والتعطيل، والخروجِ عن الحكمة، والبعد عن السلامة، والتعدِّي على خيار الأمَّة، مع رفضِهم قيامَ صفاتِ الفعل بالله تعالى، فضلًا عن إفراطهم في تحكيم العقل وردِّ النصوص ومُعارَضتِها به؛ فما وافق العقلَ مِنْ نصوص الشرع عَمِلوا به وما خالف أوَّلوه؛ فإنَّ هذه الموازينَ العقليَّة التي قعَّدَتْها عقولٌ ضالَّةٌ في تصوُّر الحقائق العَقَديَّة الكبرى زلزلَتْ عقائدَ المسلمين وصرَفَتْهم عن كتابِ ربِّهم وسُنَّةِ نبيِّهم صلَّى الله عليه وسلَّم، فكيف تكون هذه الأقيسةُ والبراهينُ ـ زعموا ـ ومحاولةُ تطبيقها على المَطالِب الإلهيَّة مؤدِّيةً إلى السلامة في المفاهيم العَقَديَّة؟! مع البَوْن الشاسع بين هذه الأصولِ المُنحرِفة وتلك التي تبني معرفتَها على دلالةِ نصوص الشرع بخبر الله وخبرِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وبفهمِ سلفِ هذه الأمَّة.

◀️(٤) مرادُه: أنَّ «الأصل في العبادات الحظرُ والمنعُ حتَّى يقوم الدليلُ على الجواز والمشروعيَّة»، وأنَّ كُلَّ مَنْ أَحْدَث في دِين الله ما ليس منه فهو باطلٌ مردودٌ على صاحبِه؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» [أخرجه مسلمٌ في «الأقضية» (١٢/ ١٦) بابُ نقضِ الأحكام الباطلة وردِّ مُحْدَثاتِ الأمور، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها]، وأنَّ الله تعالى لا يقبل مِنَ الدِّين إلَّا ما شَرَع، وما يتبع ذلك مِنَ الإخلاص لله تعالى والمتابعةِ لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم.

◀️(٥) قال القرطبيُّ ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (١٠/ ٤١)] عن بعضِ أهل المَعاني في مَعْرِضِ ذِكرِ قول الشاعر: «لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا»: «لا يجوز هذا؛ لأنه لا يُقالُ: لله عَمْرٌ، وإنما هو تعالى أزليٌّ، ذَكَره الزهراويُّ»؛ والصحيحُ جوازُه، [انظر: «إمتاع الجليس» (ص ٧٩)].

◀️أمَّا لفظةُ «لَعَمْرِي» أو «لَعَمْرُك» فقَدْ كَرِهها كثيرٌ مِنْ أهل العلم لأنَّ معناها: «وحياتي»، وهو منقولٌ عن إبراهيم النَّخَعيِّ ومالكٍ وغيرِهما؛ وقد استعملها السلفُ الصالح منهم: عمر بنُ الخطَّاب وابنُ عبَّاسٍ مِنَ الصحابة رضي الله عنهم، والإمامُ الشافعيُّ والإمامُ أحمد، وشيخُ الإسلام ابنُ تيمية في «مجموع الفتاوى» وابنُ القيِّم في «روضة المُحِبِّين»، وغيرُهم مِنَ العلماء رحمهم الله تعالى، ولا يَلْزَم منها القَسَمُ، وقد ألَّف الشيخ حمَّادٌ الأنصاريُّ ـ رحمه الله ـ رسالةً باسْمِ: «القول المُبين في أنَّ «لَعَمْرِي» ليسَتْ نصًّا في اليمين».

◀️وعليه، يُحْمَلُ كلامُ السلف على عدَمِ إرادة اليمين، أمَّا مَنْ أراد القَسَمَ واليمين فحُكمُه المنعُ لأنه قَسَمٌ جاهليٌّ ورَدَ النهيُ عنه، [انظر: «غمز عيون البصائر» للحَمَوي (١/ ٤٥)، و«مُعجَم المَناهي اللفظية» لبكر أبو زيد (٤٧٠)]؛ ولا يخفى أنه لا يجوز الاستدلالُ بقوله تعالى: ﴿لَعَمۡرُكَ إِنَّهُمۡ لَفِي سَكۡرَتِهِمۡ يَعۡمَهُونَ ٧٢﴾ [الحِجْر] على جواز استعماله؛ لأنَّ لله أَنْ يُقسِمَ بما شاء مِنْ مخلوقاته ما لا يجوز لغيره مِنْ عباده.

◀️هذا، وجديرٌ بالتنبيه أنَّ لفظَ «العَمْر» ـ بضمِّ العين وفتحِها ـ لُغَتان، ومعناهما واحدٌ، إلَّا أنه لا يُستعمَلُ في القَسَم إلَّا بالفتح كما ذَكَر القرطبيُّ ـ رحمه الله ـ وكذلك ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ [انظر: «تفسير القرطبي» (١٠/ ٤٠)، «فتح الباري» لابن حجر (٨/ ٤٧٢)].

◀️(٦) المنهج السلفيُّ قائمٌ على صحيح المنقولِ الثابت بالكتاب والسُّنَّةِ والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين مِنْ أئمَّة الهدى ومصابيحِ الدُّجَى الذين سَلَكوا طريقَهم؛ فهذا المنهج هو الصراطُ المستقيم، وهو أعظمُ ما يتميَّز به أهلُ السُّنَّة والجماعة عن أهل الأهواء والفُرْقة، وهي خصيصةٌ لم يتَّصِف بها أحَدٌ سِوَاهم؛ لأنَّ مصدر التلقِّي عند مُخالِفيهم مِنْ أهل البِدَع والفُرْقة هو العقلُ الذي أَفْسَدَتْه تُرَّهاتُ الفلاسفة وخُزَعْبلاتُ المَناطِقة وتمحُّلاتُ المتكلِّمين.

◀️(٧) والشيخ عبد الحميد بنُ باديس ـ رحمه الله ـ في نصيحته النافعةِ لا يخرج عن دعوةِ أهل السُّنَّة والجماعة إلى التمسُّك بوصيَّةِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، المتمثِّلةِ في الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة وما اتَّفقَتْ عليه الأمَّةُ؛ فهذه أصولٌ معصومةٌ دون ما سِوَاها؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ» [أخرجه مالكٌ بلاغًا في «الموطَّإ» (٣/ ٩٣)، ويشهد له ما أخرجه الحاكمُ في «مُستدرَكه» (١/ ٩٣) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ وأبي هريرة رضي الله عنهم، وما أخرجه البيهقيُّ في «سُنَنه الكبرى» (١٠/ ١١٤) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله
عنهما. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «المشكاة» (١/ ٦٦)]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» [أخرجه أبو داود في «السُّنَّة» (٥/ ١٣) بابٌ في لزوم السُّنَّة، والترمذيُّ في «العلم» (٥/ ٤٤) بابُ ما جاء في الأخذ بالسُّنَّة واجتنابِ البِدَع، وابنُ ماجه في «المقدِّمة» (١/ ١٥) بابُ اتِّباعِ سُنَّةِ الخُلَفاء الراشدين المهديِّين، مِنْ حديثِ العِرْباض بنِ سارية رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (٣/ ١١٨) و«صحيح ابنِ ماجه» (١/ ٣١)].

🗓الجزائر في: ٠١ ذي القعدة ١٤٢٦ﻫ
🗓الموافق ﻟ: ٠٢ ديسمبر ٢٠٠٥م
مقالات ورسائل الشيخ عبد الحميد بن باديس pinned «🚪قسم المقالات: مقالات و رسائل الشيخ عبد الحميد بن باديس 📜في نصيحة نافعة و وصية جامعة 💻الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله 🔗https://ferkous.com/home/?q=ibnbadis-3-5 ⬇️⬇️»
🚪قسم المقالات:
مقالات و رسائل الشيخ عبد الحميد بن باديس
📜إرشاد واستنهاض
💻الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
🔗
https://ferkous.com/home/?q=ibnbadis-3-4
⬇️⬇️
◀️الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

◀️فقَدْ قال الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ:

«قَدْ رَبَطَ اللهُ بَيْنَ الْأَسْبَابِ وَمُسَبَّبَاتِهَا ـ خَلْقًا وَقَدَرًا ـ(٢) بِمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ(٣)؛ لِنَهْتَدِيَ بِالْأَسْبَابِ إِلَى مُسَبَّبَاتِهَا، وَنَجْتَنِبَهَا بِاجْتِنَابِ أَسْبَابِهَا.

◀️وَقَدْ عَرَّفَنَا ـ فِي الْآيَاتِ المُتَقَدِّمَةِ(٤) ـ بِأَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ؛ لِنَتَّقِيَ تِلْكَ الْأَسْبَابَ فَنَسْلَمَ، أَوْ نُقْلِعَ عَنْهَا فَنَنْجُوَ؛ فَإِنَّ بُطْلَانَ السَّبَبِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ المُسَبَّبِ(٥)؛ وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا فِي كِتَابِهِ أُمَّةً(٦) أَقْلَعَتْ عَنْ سَبَبِ الْعَذَابِ فَارْتَفَعَ عَنْهَا بَعْدَ مَا كَادَ(٧) يَنْزِلُ بِهَا؛ لِيُؤَكِّدَ لَنَا أَنَّ الْإِقْلَاعَ عَنِ السَّبَبِ يُنْجِي مِنَ المُسَبَّبِ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِلَّا قَوۡمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ ٩٨﴾ [يونس](٨)، فَبِمُبَادَرَتِهِمْ(٩) لِلْإِيمَانِ وَإِقْلَاعِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ(١٠)؛ وَأَرْشَدَنَا ـ فِي ضِمْنِ هَذَا ـ إِلَى الْعِلَاجِ النَّاجِعِ فِي كَشْفِ الْعَذَابِ وَإِبْطَالِ أَسْبَابِهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ؛ كَمَا أَرْشَدَنَا إِلَيْهِ ـ أَيْضًا ـ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَ هَذَا: ﴿فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡيَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ﴾ [يونس: ٩٨](١١)، أَيْ: نَجَّاهَا مِنَ الْعَذَابِ، وَذَكَرَ قَوْمَ يُونُسَ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ؛ وَأَرْشَدَنَا إِلَيْهَا ـ أَيْضًا ـ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ [الأعراف: ٩٦]؛ فَالْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى هُمَا الْعِلَاجُ الْوَحِيدُ لَنَا مِنْ حَالَتِنَا؛ لِأَنَّنَا إِذَا الْتَزَمْنَاهُمَا نَكُونُ قَدْ أَقْلَعْنَا عَنْ أَسْبَابِ الْعَذَابِ؛ وَلَا نَنْهَضُ بِهَذَا الْعِلَاجِ الْعَظِيمِ إِلَّا إِذَا قُمْنَا مُتَعَاوِنِينَ ـ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ(١٢) ـ فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ ذَلِكَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَبَدَأَ بِهِ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ فِي مَنْ إِلَيْهِ ثُمَّ فِي مَنْ يَلِيهِ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ، ثُمَّ جَمِيعِ أَهْلِ مِلَّتِهِ؛ فَمَنْ جَعَلَ هَذَا مِنْ هَمِّهِ، وَأَعْطَاهُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ سَعْيِهِ؛ كَانَ خَلِيقًا أَنْ يَصِلَ إِلَى غَايَتِهِ أَوْ يَقْرُبَ مِنْهَا.

◀️وَلْنَبْدَأْ مِنَ الْإِيمَانِ بِتَطْهِيرِ عَقَائِدِنَا مِنَ الشِّرْكِ، وَأَخْلَاقِنَا مِنَ الْفَسَادِ، وَأَعْمَالِنَا مِنَ المُخَالَفَاتِ.

◀️وَلْنَسْتَشْعِرْ أُخُوَّةَ الْإِيمَانِ الَّتِي تَجْعَلُنَا كَجَسَدٍ وَاحِدٍ(١٣)، وَلْنَشْرَعْ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مُحْتَقِرِينَ لِأَنْفُسِنَا، وَلَا قَانِطِينَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّنَا، وَلَا مُسْتَقِلِّينَ لِمَا نُزِيلُهُ ـ كُلَّ يَوْمٍ ـ مِنْ فَسَادِنَا؛ فَبِدَوَامِ السَّعْيِ وَاسْتِمْرَارِهِ يَأْتِي ذَلِكَ الْقَلِيلُ مِنَ الْإِصْلَاحِ عَلَى صَرْحِ الْفَسَادِ الْعَظِيمِ مِنْ أَصْلِهِ.

◀️وَلْيَكُنْ دَلِيلَنَا فِي ذَلِكَ وَإِمَامَنَا: كِتَابُ رَبِّنَا وَسُنَّةُ نَبِيِّنَا، وَسِيرَةُ صَالِحِ سَلَفِنَا؛ فَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا يُعَرِّفُنَا بِالْحَقِّ، وَيُبَصِّرُنَا فِي الْعِلْمِ، وَيُفَقِّهُنَا فِي الدِّينِ، وَيَهْدِينَا إِلَى الْأَخْذِ بِأَسْبَابِ الْقُوَّةِ وَالْعِزِّ وَالسِّيَادَةِ الْعَادِلَةِ فِي الدُّنْيَا(١٤)، وَنَيْلِ السَّعَادَةِ الْكُبْرَى فِي الْأُخْرَى؛ وَلَيْسَ هَذَا عَنِ الْعَامِلِينَ بِبَعِيدٍ، وَمَا هُوَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ».
🔹(١) «آثار الإمام عبد الحميد بنِ باديس» (١/ ٢٩٩).

🔹(٢) لم يجعل اللهُ سبحانه الأسبابَ مَحَلَّ حكمتِه في أمره الكونيِّ القَدَريِّ فحَسْبُ، بل جَعَلها في أمره الدِّينيِّ الشرعيِّ، ومَحَلَّ مُلْكه وتصرُّفه؛ وجَحْدُ الأسبابِ قدحٌ في العقول الصحيحة، وطعنٌ في الفِطَر السليمة؛ قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«شفاء العليل» (٢/ ٥٣٢)]: «فإنكار الأسباب والقُوَى والطبائعِ جحدٌ للضروريَّات، وقدحٌ في العقول والفِطَر، ومُكابَرةٌ للحِسِّ، وجحدٌ للشرع والجزاء... بل الموجوداتُ كُلُّها أسبابٌ ومُسبَّباتٌ، والشرعُ كُلُّه أسبابٌ ومُسبَّباتٌ، والمقاديرُ أسبابٌ ومُسبَّباتٌ، والقَدَرُ جارٍ عليها مُتصرِّفٌ فيها، فالأسبابُ مَحَلُّ الشرعِ والقَدَر» [بتصرُّف].

🔹(٣) أهلُ السُّنَّة يُقِرُّون بالقَدَر والشرع، ويُثْبِتون الحكمةَ والتعليل في خَلْق الله، كما يُقِرُّون بما جَعَله سبحانه مِنَ الأسباب والمصالح التي جَعَلها رحمةً للعباد؛ فكُلُّ ما خَلَقه اللهُ تعالى فيه حكمةٌ؛ قال تعالى: ﴿صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍ﴾ [النمل: ٨٨]، وقد وَصَف اللهُ نَفْسَه بالحكمة في غيرِ موضعٍ، ونزَّه نَفْسَه عن الفحشاء فقال: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِ﴾ [الأعراف: ٢٨]، ونزَّه نَفْسَه عن التسوية بين الخير والشرِّ فقال: ﴿أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ كَٱلۡمُجۡرِمِينَ ٣٥﴾ [القلم]، وقال سبحانه: ﴿أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ ٢٨﴾ [ص].

◀️وهذا بخلافِ ما عليه الجهميَّةُ والأشاعرة ومَنْ وافقهم، الذين يَنْفون الحكمةَ والتعليل في أفعاله سبحانه، فلم يُثْبِتوا إلَّا إرادةً بلا حكمةٍ، فقالوا: إنَّ الله يأمر وينهى لا لحكمةٍ، ولا يخلق اللهُ تعالى شيئًا لحكمةٍ، لكنَّ نَفْسَ المشيئة أَوجَبَتْ وقوعَ ما وَقَع؛ فهُمْ لا يُثْبِتون إلَّا مَحْضَ الإرادةِ بلا حكمةٍ، وأَثْبَتوا مشيئةَ الله سبحانه بلا رحمةٍ ولا محبَّةٍ ولا رِضًا؛ وفسادُ هذا القولِ ظاهرٌ، عُلِم بطلانُه بأدلَّة الكتاب والسُّنَّة وإجماعِ سلفِ الأمَّة، وهو مُخالِفٌ للمعقول الصريح، [انظر تفصيلَ ذلك في: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٨/ ١٤٥، ٤٣٤)، «شفاء العليل» لابن القيِّم (٢/ ٥٣٧) وما بعدها].

(٤) يقصد المُصنِّفُ ـ رحمه الله ـ الآياتِ الواردةَ في مقاله الموسوم ﺑ: «إيضاح وتعليل» في [«الآثار» (١/ ٢٩٧ ـ ٢٩٨)]، وهي: ﴿وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ﴾ [الكهف: ٥٩]، ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ بِظُلۡمٖ وَأَهۡلُهَا مُصۡلِحُونَ ١١٧﴾ [هود]، ﴿وَمَا كُنَّا مُهۡلِكِي ٱلۡقُرَىٰٓ إِلَّا وَأَهۡلُهَا ظَٰلِمُونَ ٥٩﴾ [القَصص]، ﴿وَكَمۡ قَصَمۡنَا مِن قَرۡيَةٖ كَانَتۡ ظَالِمَةٗ﴾ [الأنبياء: ١١]، ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ عَتَتۡ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِۦ فَحَاسَبۡنَٰهَا حِسَابٗا شَدِيدٗا وَعَذَّبۡنَٰهَا عَذَابٗا نُّكۡرٗا ٨﴾ [الطلاق]، ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ ١١٢﴾ [النحل]، وخَتَمها بقوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ٤٦﴾ [فُصِّلَتْ].

(٥) مُرادُه: أنه إِنْ عُدِم السببُ الذي يدخل تحت قدرة المكلَّف وفعلِه عُدِم الحكمُ وهو المسبَّب، والسببُ ـ مِنْ هذه الحيثيَّة ـ يتَّفِق مع الشرط في تأثيرِ عدمه في الحكم، بخلاف المانع الذي يؤثِّر وجودُه في الحكم، وهذه الأوصاف الثلاثة ثابتةٌ للحكم الوضعيِّ باتِّفاقٍ، وقد يَشْمَلُها جميعًا إطلاقُ لفظةِ «الأسباب» عليها أو «الشروط»، وتكون سابقةً للحكم التكليفيِّ أو مُقارِنةً له، بينما الصحَّةُ والبطلان والرخصة والعزيمة تكون أثرًا لاحقًا للحكم التكليفيِّ؛ لذلك فالتعبيرُ بأنَّ عَدَمَ السبب يَلْزَم منه عدمُ المسبَّب أَوْلى تعبيرًا مِنَ القول بأنَّ بطلان السبب يقتضي بطلانَ المسبَّب؛ لأنَّ البطلان أثرٌ لاحقٌ للحكم والسببَ سابقٌ عليه، والعلمُ عند الله تعالى.

(٦) هذه الأمَّة هي أهلُ «نِينَوَى» وهي قريةُ يونس بنِ مَتَّى عليه السلام، وهي واقعةٌ بالمَوْصِل: تُقابِلُها مِنَ الجانب الشرقيِّ، بينهما دِجْلةُ، وقد كانوا مائةَ ألفٍ أو يزيدون، [انظر: «مُعجَم البلدان» للحَمَوي (٥/ ٣٣٩)، «مراصد الاطِّلاع» للصفِّي البغدادي (٣/ ١٤١٤)، «الروض المِعْطار» للحِمْيَري (٥٨٥)]، دَعَاهم يونسُ بنُ مَتَّى عليه السلام إلى الله تعالى فكذَّبوه وتمرَّدوا عليه بكفرهم وعِنادهم، وذلك سببُ العذاب الذي وَعَدهم حلولَه بهم بعد ثلاثةِ أيَّامٍ، فلمَّا خَرَج مِنْ بين أَظْهُرِهم وأَيْقنوا نزولَ العذاب بهم قَذَف اللهُ في قلوبهم التوبةَ والإنابة، وبادروا إلى الإيمان، ونَدِموا على ما كان منهم إلى نبيِّهم قبل أَنْ يَرَوُا العذابَ؛ فكَشَف اللهُ تعالى عنهم العذابَ بحَوْله ورحمتِه، [انظر:
«تفسير القرطبي» (٨/ ٣٨٣)، «تفسير ابن كثير» (٢/ ٤٣٢)].

(٧) وفي الأصل: «كان»، ولعلَّ الصوابَ ما أَثبَتُّه.

(٨) يُستفادُ مِنْ دلالةِ مفهوم المخالفة مِنَ الآية: أنَّ إيمانَ قومِ يونس عليه السلام إنما نَفَعهم في الدنيا دون الآخرة على أحَدِ قولَيْ أهل التفسير، حيث كَشَف اللهُ تعالى العذابَ عنهم ومتَّعَهم في الدنيا إلى حينٍ معلومٍ قدَّره لهم، وهو منتهى آجالهم؛ والأظهرُ أنَّ المَتاع إلى حينٍ لا ينفي أَنْ يكون معه غيرُه مِنْ رفع العذاب الأُخْرويِّ، وخاصَّةً وأنه تعالى أَطلقَ عليهم اسْمَ الإيمان مِنْ غيرِ قيدٍ في سورة الصافَّات: ﴿وَأَرۡسَلۡنَٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلۡفٍ أَوۡ يَزِيدُونَ ١٤٧ فَ‍َٔامَنُواْ فَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ ١٤٨﴾ [الصافَّات]، ولا يخفى أنَّ الإيمان مُنقِذٌ مِنْ عذاب الدنيا وعذابِ الآخرة، [انظر: «قَصص الأنبياء» لابن كثير (٢٤٤)، «أضواء البيان» للشنقيطي (٢/ ٤٩١)].

(٩) وفي الأصل: «فبمادرتهم»: خطأٌ مطبعيٌّ سقطَتْ فيه الباءُ الثانية.

(١٠) الظاهر ـ مِنْ عموم الآيات القرآنية ـ أنَّ الله تعالى لم يكشف العذابَ عن قومِ يونس عليه السلام بسببِ مُبادَرَتِهم للإيمان وإقلاعِهم عن الكفر فحَسْبُ، وإنما بعد تحصيلهم الإيمانَ وقبل رؤيتهم العذابَ، أو عند أوَّلِ المُعايَنة قبل حلوله بهم؛ ذلك لأنَّ المعهود مِنْ سُنَّة الله في عِباده: عدمُ قَبولِ توبة الكافر بعد رؤيتِه العذابَ وحصولِ العلم الضروريِّ، فلا ينفع إيمانٌ بعد مُعايَنة العذاب؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَا قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥ وَكَفَرۡنَا بِمَا كُنَّا بِهِۦ مُشۡرِكِينَ ٨٤ فَلَمۡ يَكُ يَنفَعُهُمۡ إِيمَٰنُهُمۡ لَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَاۖ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدۡ خَلَتۡ فِي عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٥﴾ [غافر]، وقال تعالى: ﴿وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ﴾ [النساء: ١٨]؛ فنَفَى سبحانه أَنْ يدخل في حكم التائبين مَنْ حَضَرَه الموتُ وصار في حينِ البأسِ كما كان عليه أمرُ فرعون، فلم ينفعه ما أَظهرَ مِنَ الإيمان؛ إذ التوبةُ في ذلك الوقتِ لا تنفع؛ لأنها حال زوال التكليف؛ لذلك لم يكن حكمُ الله تعالى في قومِ يونس عليه السلام كحكمه في غيرهم.

(١١) و﴿لَوْلَا﴾ في الآية هي التحضيضيَّة التي بمعنَى «هلَّا»، أي: هلَّا وُجِدَتْ قريةٌ واحدةٌ مِنَ القرى فيما سَلَفَ مِنَ القرون التي أهلَكْناها آمنَتْ بكمالها إيمانًا مُعْتَدًّا به، خالصًا لله قبل حلول العذاب بهم، باستثناءِ قومِ يونس عليه السلام: لمَّا آمنوا ـ قبل مُعايَنةِ العذاب أو عند أوَّلِ المعاينة قبل حلوله بهم ـ كَشَفْنا عنهم عذابَ الخزي في الحياة الدنيا؛ والاستثناءُ فيه مُنقطِعٌ كما هو ظاهرٌ، [انظر: «تفسير القرطبي» (٨/ ٣٨٣)، «فتح القدير» للشوكاني (٢/ ٤٧٤)].

(١٢) لا تقوم ولايةُ المؤمنين إلَّا على صدق الإيمان بالله وتنفيذِ أوامره وإقامةِ شرعِه، وهو ما عَنَاهُ الشيخ ابنُ باديس ـ رحمه الله ـ بالإيمان والتقوى والتعاونِ عليهما، وبهذا يكون تأييدُ الله للمؤمنين ورحمتُه بهم، وقد جاء في القرآنِ تبصيرُ الناسِ بمُقتضَيَات الإيمان وسُبُلِ المؤازرة وغايتِها؛ قال تعالى: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٧١﴾ [التوبة].

(١٣) الأُخُوَّة الصادقة تَستمِدُّ أصالتَها مِنَ الإيمان بالله، وتتماسك وحدتُها بعبادة الله وَحْدَه لا شريكَ له، ضِمْنَ عقيدةٍ سليمةٍ مُوحَّدةٍ تجمع أصحابَها برباطٍ واحدٍ، وتجعلهم مُتماسِكين كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضًا، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تَداعى له سائرُ الأعضاء بالسهر والحُمَّى؛ ومِنْ خلالها يتحقَّق إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ والتعاونُ على البِرِّ والتقوى، وتبعث في نفوس الإخوة المُتعاوِنين طاقةً للعمل في إطارِ شريعة الله المُحكمة، تنصر الحقَّ حيث كان، وتُبْطِلُ الباطلَ مهما كان.

◀️فسببُ تفرُّق المسلمين وتصدُّعِ أُخُوَّتهم يكمن ـ أساسًا ـ في فساد الاعتقاد، نتيجةَ التخلِّي عن كتاب الله وسُنَّةِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، والبعدِ عمَّا كان عليه سلفُ الأمَّة مِنَ الاعتقاد الصحيح، والخُلُقِ القويم، والإخلاصِ والمتابعة؛ فبهذا أَعزَّ اللهُ الإسلامَ والسُّنَّة، وجَمَع شَمْلَ المسلمين، وأَظهرَهم على الشرك والمشركين، وأَنقذَهم مِنْ حيرة الشَّتات والفُرقة، ومِنْ موجة التمزُّق والضعف والهوان التي اجتاحَتْ بلادَ المسلمين بعد تَغلغُلِ المذاهب المُنحرِفة، فنَشَر فيها العدلَ والقسط، وعمَّ البلادَ الرَّخاءُ والأمنُ تحت راية التوحيد والسُّنَّة، [انظر
مقالتي: «تبيين الحقائق للسالك لتَوَقِّي طُرُق الغواية وأسبابِ المهالك» مطبوعةٌ مع «تسليط الأضواء» (ص ٥٣)].

(١٤) إنَّ سُنَنَ الله ثابتةٌ لا تقبل التبديلَ والتحويل، ولا تخضع لرَغَباتِ الناس وأَمَانِيِّهم وأحلامهم، فقَدْ جَعَل اللهُ للعِزِّ أسبابًا وللذلِّ أخرى؛ وما مِنْ سببٍ مِنْ أسباب العزَّة إلَّا دلَّنا عليه، ودَعَانا إليه، ورغَّبَنا فيه، ووَعَدنا بالإثابة عليه، وبيَّن لنا نتائجَه وأثرَه على أَنْفُسِنا وعلى مَنْ سَبَق مِنَ الأُمَم قبلنا؛ وما مِنْ سببٍ مِنْ أسباب الذلِّ والهوان إلَّا حذَّرَنا منه، وأَمَرنا باجتنابه، وأَظهرَ لنا خطورتَه وسُوءَ عاقِبَتِه في أَنْفُسنا وفي الأُمَم التي خَلَتْ مِنْ قبلنا؛ قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ يَكُ مُغَيِّرٗا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٥٣﴾ [الأنفال].

◀️هذا، والإسلام لا يرضى لنا الذلَّ والهوان، بل أَمَرَنا بتحصيلِ مَطالِب العزَّة الدِّينيَّة، التي تكمن في الاعتصام بالقرآن الكريم وما يدعو إليه مِنْ دواعي العزَّة وأسبابِ النصر؛ فبِردِّ حياتِنا إليه وإقامةِ روابطنا عليه، وتصحيحِ واقعِنا به، واجتماعِ أُمَّتنا على كلمةٍ سواءٍ، تلك الكلمة التي نادى بها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بأمرٍ مِنْ ربِّه: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾ [آل عمران: ٦٤]، فبتلك الكلمةِ يَتِمُّ التمكينُ في الأرض والاستخلافُ فيها، ويتحقَّق الأمنُ بعد الخوف؛ قال تعالى: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗا﴾ [النور: ٥٥].

◀️والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

🗓الجزائر في: ٠١ ربيع الأوَّل ١٤٢٧ﻫ
🗓الموافق ﻟ: ٣٠ مارس ٢٠٠٦م
مقالات ورسائل الشيخ عبد الحميد بن باديس pinned «🚪قسم المقالات: مقالات و رسائل الشيخ عبد الحميد بن باديس 📜إرشاد واستنهاض 💻الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله 🔗https://ferkous.com/home/?q=ibnbadis-3-4 ⬇️⬇️»
HTML Embed Code:
2024/06/01 02:08:23
Back to Top